المنطقة سترقص قريباً على اللحن الفلسطيني
ناصر قنديل
– لا يستطيع أي مراقب للمشهد الدولي والإقليمي أن يتجاهل الاتجاه الثابت لتطورات العقدين الماضيين، بتكريس فشل كل الحروب الأميركية والإسرائيلية، وما يشير إليه ذلك من مسار واضح لما سيحمله قادم الأيام في القرن الواحد والعشرين، لكن ما لا يجب أن يفوت كل متابع هو أن الحكومات والقوى المناوئة للهيمنة الأميركية والعدوانية الإسرائيلية، تدخل العقد الثالث بروحية مختلفة، فيها من الجسارة والتشبت بصناعة انتصاراتها، ما يزيح نموذجاً كان يقوم على حفظ ماء الوجه للأميركي بخروج موارب من المواجهات، ليس فيه نصر بائن ولا هزيمة بائنة، وينزاح معه أيضاً حرص رافق مواجهات العقدين الماضيين على تحييد جماعات وحكومات تدور في الفلك الأميركي، وتقدم خدمات للاحتلال، وتنسق معه فوق وتحت الطاولة، خصوصاً ذلك الحرص الذي طبع العقدين الماضيين على تحييد دول الخليج وفي مقدمتها السعودية، ومساعدتها في كل مرة تذهب للتموضع الصريح في الحروب الأميركية، لتنزل عن الشجرة بأقل إحراج وخسارة ممكنتين، ويتمثل التحول النوعي الذي تشهده المواجهة في مطلع العقد الثالث بهزائم مدوية يتلقاها الأميركي من دون أي مساعدة يلقاها من خصومه لحفظ ماء الوجه، له أو لكيان الاحتلال، أو لنماذج حلفاء تتقدمهم السعودية، ويكفي للتحقق من ذلك، النظر للانسحاب الأميركي من أفغانستان، ولمعركة سيف القدس، ولما يجري اليوم في اليمن، وما جرى في الانتخابات في فنزويلا، وما تقدمه إيران من وقائع في المواجهات شبه اليومية في مياه الخليج، وفي طريقة إدارتها لمستقبل ملفها النووي، حيث المعادلة واضحة، عودوا عن العقوبات إذا أردتم منا العودة لالتزاماتنا، وإلا فنحن ماضون في تصعيد برنامجنا وافعلوا ما تريدون فنحن لا نقيم حساباً لتهديداتكم.
– في مقاربة مثل هذه السياقات التاريخية النادرة الحدوث والمحدودة التكرار، يميل الباحثون إلى الاهتمام بالأكبر فالأصغر، بالدولي فالإقليمي فالمحلي، وفي الإجابة عن سؤال، إلى أين تتجه الأمور، نحو المواجهة أم التسويات، تقول كل الملفات الموجودة على الطاولة، أن قابلية التسوية تتفوق في ماهية كل ملف على حدة، والتسوية على قاعدة التسليم الأميركي بالفشل، لو كان محرجاً وقاسياً، كما كانت الحال مع الانسحاب من أفغانستان، ومن يعود لتقرير بايكر هاملتون سيجد أنه منذ عام 2006 بدأ النقاش على أعلى المستويات الأميركية بحتمية التموضع على قاعدة مثل هذا التسليم، التسليم بشراكة ندية مع روسيا، وبدور إقليمي فاعل لإيران ومكانتها النووية وشراكتها الحتمية في استقرار أفغانستان والعراق وأمن الخليج والطاقة، والتسليم بدور سورية، وصولاً للتسليم بأنه من دون التسليم بالحاجة لحل القضية الفلسطينية يضمن حق العودة للاجئين وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، فكل شيء سيكون عرضة للانهيار، وبالمقابل تظهر كل ملفات النزاع الراهنة، أن عقدة صياغة التسويات حولها ليس نابعاً من عدم القابلية الأميركية لتحمل الهزيمة، بل عدم قدرتها على قبول تسوية لا تضمن أمن إسرائيل أو تعرض هذا الأمن للخطر، وسواء أخذنا روحية بايكر هاملتون أو الواقع الراهن، فهذا سيعيدنا سواء بالتقرب من الأعلى فالأدنى أو من الدولي إلى الإقليمي فالمحلي، أو إذا سرنا بالعكس، إلى أن العقدة في كل الأحوال هي في المواجهة المفتوحة بين كيان الاحتلال وحركة الشعب الفلسطيني.
– الأمر لا علاقة له هنا بالحديث عن موقع القضية الفلسطينية الوجداني والأخلاقي، بل عن موقعها السياسي كمحرك ومعطل للسياسات، وفي قلب هذه اللحظة التي تبدو صراعات كبرى، كمستقبل الوجود الأميركي في العراق وسورية، والملف النووي الإيراني، والحرب في اليمن، وقد تجمد التفاوض حولها أو يبدو مرتبكاً، بفعل المترتبات التي تنجم عن كل خطوة نحو المواجهة أو نحو التسوية، على أمن إسرائيل، أي مستقبل القضية الفلسطينية، يقرر الفلسطينيون، بكل ما يعنيه الوصف الجمعي لكلمة فلسطينيون، الدخول على الخط كصانع أول للسياسة، بعدما اكتشتفوا أنهم للمرة الأولى أن الصراع الأهم حول فلسطين يخاض على أرضها وبناسها، وأن ناسها باتوا يمتكلون ما يكفي لرسم إيقاع الصراع وعزف لحنه التاريخي، كما قالت لهم تجربة المواجهة الكبرى في سيف القدس، فينتقلون من التربص التاريخي باللحظة إلى الإمساك بها، فتصعد ديناميكية صناعتهم للأحداث ويتزاحم إيقاع حضورهم، ويخرج شيبهم وشبابهم، المعلمون والتلامذة، المقاتلون والقادة، ويتصدرون ساحات النزال، ويكفي لفهم حقيقة ما يجري، التوقف أمام معنى التتابع المتصاعد للأحداث التي لم تتوقف منذ معركة سيف القدس، وفي الساحات الأهم، كالقدس والأراضي المحتلة عام 48 وسجون الاحتلال، والتوقف أمام التعاقب المذهل خلال أربعة وعشرين ساعة بين نموذجي عمر أبو عصب ابن الستة عشر ربيعاً، والشيخ فادي أبو شخيدم الأستاذ ذي الاثنين وأربعين عاماً، لفهم معنى الإمساك الفلسطيني باللحظة التاريخية، ودعوة المنطقة للرقص على إيقاع موسيقى فلسطين.