حلول من خارج الصندوق…
} أحمد بهجة*
ليس صحيحاً أن لا حلّ للأزمات الاقتصادية والمالية التي يعانيها لبنان واللبنانيون من خارج الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وقبل أن يُفهم الكلام على غير محمله نسارع إلى القول ان لا بأس من التفاوض مع الصندوق والتوصل إلى اتفاق معه بشأن القروض التي يمكن أن يقدّمها… طبعاً وفق شروط تناسب لبنان وحاجاته ومتطلبات مجتمعه.
وقد سمعنا بالأمس رئيس الوفد اللبناني المفاوض مع الصندوق نائب رئيس الحكومة الدكتور سعادة الشامي يوضح بعد لقائه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون «أنّ المفاوضات التقنية انتهت تقريباً ودخلنا في مرحلة المفاوضات على السياسات النقدية والاقتصادية كي نبدأ بالتفاوض بشكل جدي مع فريق الصندوق الذي نأمل أن يزور لبنان قريباً».
ويضيف الشامي «انّ هدفنا لا يزال هو التوصّل الى اتفاق مبدئي قبل أواخر السنة، على أن نتوصّل بعد ذلك كما هو مفروض الى اتفاق نهائي في كانون الثاني من العام المقبل».
طبعاً كلام نائب رئيس الحكومة دقيق وواضح من الناحية التقنية، لكن المشكلة هي في التوقيت، حيث أنّ لبنان دخل منذ الآن في مدار الانتخابات النيابية المتوقع أن تجري بين آذار وأيار المقبلين، وهذا يعني أنّ التوصّل إلى اتفاق مع الصندوق في نهاية كانون الثاني أو مطلع شباط، كما أعلن الشامي، سيأتي في عزّ معمعة الانتخابات، ولذلك على الأرجح أن يتأخر التنفيذ إلى ما بعد الانتخابات، حيث تكون الحاجة لانتظار تشكيل الحكومة الجديدة، وإذا أخذ هذا التشكيل أشهراً كما هي العادة، نكون قد دخلنا في مدار انتخابات رئاسة الجمهورية، مما يعني المزيد من تأخير التنفيذ، حيث أننا بعد انتخاب الرئيس الجديد علينا أيضاً انتظار تشكيل حكومة جديدة…
في هذه الحالة فإنّ تنفيذ أيّ اتفاق مع صندوق النقد، إذا تمّ التوصل إليه، لن يُنفّذ إلا بعد سنة ونصف السنة تقريباً… فهل يستطيع لبنان وشعبه انتظار كلّ هذه المدة حتى تدخل إلى البلد قروض قيمتها ما بين 3 و 5 مليارات دولار في ثلاث سنوات، هذا إذا لم يكن أقلّ من ذلك؟
نعود إلى ما أوردناه قبل قليل… لا بأس من التفاوض ثم الاتفاق مع الصندوق بشروط تناسب لبنان، لكن من الآن حتى يبدأ تنفيذ الاتفاق مع الصندوق (إذا حصل)، لا بدّ أن تبادر الحكومة إلى فعل شيء ما لأنّ المواطنين بحاجة ماسّة إلى ما يمكن أن يعالج أوضاعهم ومشاكلهم بشكل سريع جداً، وهم لا يستطيعون الانتظار لأيام معدودة فكيف الحال إذا قلنا لهم إنّ عليهم الانتظار لأكثر من سنة حتى يبدأ تنفيذ الاتفاق مع صندوق النقد، والذي لن يدخل إلى البلد سوى القليل القليل من الأموال التي تساعد طبعاً ولكنها لا تحلّ المشاكل كلها ولا تجلب فرص العمل ولا تحرّك الاقتصاد…
أمام الحكومة عروض مغرية جداً من روسيا والصين وإيران… وليس عليها سوى تلقف هذه العروض من دون خوف ولا وجَل من أيّ ردّ فعل من هذا الخارج أو ذاك، خاصة أنّ الدول المتخاصمة تتفاوض مع بعضها البعض لتحقيق مصالحها، ونحن علينا أن نحقق مصالحنا أيضاً…
كلّ المطلوب بعض الجرأة في اتخاذ القرارات، وها هو حزب الله أعطى الدليل من خلال استيراد المازوت الإيراني على أنّ بإمكاننا في لبنان أن نفعل ما يناسبنا، وإذا تلقفت الحكومة العرض الإيراني لتزويد لبنان بما يحتاجه من محروقات وتسديد ثمنه بالليرة اللبنانية يعني أنها ستوفر سنوياً خروج نحو ثلاثة مليارات دولار من السوق اللبنانية، وبالتالي تحلّ مشكلة المحروقات وتحدّ من ارتفاع الأسعار بشكل خيالي، وفي الوقت نفسه توقف ما يحصل اليوم من مضاربات على العملة الوطنية من خلال منصات مشبوهة وصلت بها الأمور إلى حدّ التلاعب بسعر الصرف خلال أيام العطلة وأحياناً في منتصف الليل…!؟
كما أنّ هناك العروض الإيرانية في مجال الكهرباء وبناء معملين في بيروت والجنوب بقدرة إنتاجية تصل إلى ألفي ميغاواط (ألف ميغاواط لكلّ مصنع)، إضافة إلى عرض إنشاء شبكة المترو تحت العاصمة بيروت كما فعلوا تحت العاصمة الإيرانية طهران.
كذلك هناك العرض الروسي لإنشاء مصفاة لتكرير النفط الخام الروسي، وهو عرض لا يجوز رفضه أو تجاهله، لأنه تضمّن تعهّداً من الشركات الروسية بأن تبدأ بتأمين الفيول لمعامل الكهرباء فور توقيع العقود معها، على أن تبدأ المصفاة بعد ستة أشهر بإنتاج نحو عشرين ألف برميل يومياً، ويرتفع حجم الإنتاج تباعاً ليصل بعد سنة ونصف السنة إلى180 ألف برميل يومياً، ما يعني أنّ بالإمكان تصدير الفائض عن حاجة لبنان، خاصة إذا تمّ إنشاء مصفاة ثانية.
ولنا خير مثال في جيراننا اليونانيين الذين ساهمت مصافي النفط لديهم في حلّ جزء أساسي جداً من أزمتهم الاقتصادية الكبيرة، حيث يبلغ دخل اليونان من مصافي النفط سنوياً نحو 10 مليارات دولار، علماً أنها ليست دولة نفطية، فكيف الحال في لبنان الذي سيكون في وقت قريب جداً دولة منتجة للنفط والغاز ولديه مصلحة أكيدة في أن تكون لديه مصافٍ قائمة وشغالة…
كما أنّ العروض الصينية مهمة جداً، وهي تطال ملفات عديدة مثل المياه، والكهرباء، ومعالجة النفايات، وإنشاء سكك الحديد من الجنوب إلى الشمال ومن بيروت إلى المصنع مع إنجاز المشروع الذي بدأ الكلام عنه منذ سبعينيات القرن الماضي وهو النفق الذي يصل بين حمانا وشتورا، مع ما تعنيه هذه المشاريع الهامة في قطاع المواصلات من توفير للوقت والمال لأنها تحلّ الجزء الأكبر من أزمات السير.
الجدير ذكره أنّ هذه العروض لا تقلّ قيمتها عن أربعين مليار دولار، لن تدفع منها الخزينة اللبنانية دولاراً واحداً، بل هي عروض على طريقة الـ bot، أيّ أن الشركات الروسية والإيرانية والصينية ستأتي بأموالها من الخارج إلى لبنان لكي تنفذ هذه المشاريع ومن ثم تدير تشغيلها خلال الفترة المتفق عليها في العقود، وبعد ذلك تصبح هذه المشاريع في عهدة الدولة اللبنانية.
ومع هذه المشاريع الهامة جداً والتي تحرّك الاقتصاد وتخلق الكثير من فرص العمل، هناك أيضاً ضرورة وأولوية استعادة العلاقات مع سورية إلى سكتها الصحيحة لأنّ سورية هي الرئة التي يتنفس منها الاقتصاد اللبناني، ولا بدّ لنا إذا أردنا الخروج من أزماتنا أن نبدأ بهذه الخطوة ونطلق منها إلى الأسواق العربية، لا سيما السوق العراقية التي كانت تاريخياً تستوعب القسم الأكبر من صادراتنا الصناعية والزراعية… فضلاً عن أنّ العلاقات الجيدة مع سورية والعراق والأردن ومختلف الدول العربية من شأنه تنشيط القطاع السياحي والخدماتي في لبنان…
الأكيد أنّ المعنيين بكلّ هذه القطاعات لديهم الكثير من الأفكار الإبداعية التي تساهم في حلّ الأزمات وتنشيط الدورة الاقتصادية، لكن المفتاح يبقى بيد الحكومة، وعلى الحكومة أن تقدِم وتقوم بواجباتها من دون أيّ تلكّؤ أو انتظار…
*خبير اقتصادي ومالي