نقاط على الحروف

هل ينكسر الإجماع اللبناني حول التوطين؟

 ناصر قنديل

– قد يبدو السؤال مستغرباً للكثيرين، مثلما كان مستغرباً السؤال قبل عشر سنوات حول الإجماع اللبناني حول التطبيع، فربما يكون التذكير ضرورياً بأن أشد اللبنانيين تطرفاً ضد المقاومة وسلاحها كان يؤكد صبحاً ومساء أن لبنان أشد المتضررين من التطبيع مع كيان الاحتلال، وأنه سيكون آخر المدافعين عن شروط المبادرة العربية للسلام التي أقرتها قمة بيروت عام 2002، وما تضمنته من تمسك بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، إضافة للانسحاب الإسرائيلي الشامل من الأراضي المحتلة عام 67، وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس، كشروط أي سلام، بينما يبدو لبنان السياسي والإعلامي اليوم كياناً رخوياً في موقفه من التطبيع، حيث يجري حشد آثار الأزمة الاقتصادية والمالية للقول إن لبنان أمانه أولوية واحدة هي كسب رضا الخارج الغربي والعربي الذي يملك الأموال اللازمة للخروج من الأزمة، وتحت هذا الشعار تتدحرج الكثير من الممنوعات اللبنانية ويرفع عنها الحظر.

– يمكن رصد ثلاثة ظواهر بائنة لا يمكن إنكارها من جهة، ولا تفسيرها بغير نظرية تفكيك الثوابت تحت شعار الحاجة لاسترضاء مصادر الأموال، وكلها تأتي في سياق تحول لبنان إلى كيان رخوي سياسياً، بلا ضوابط ولا حدود ولا سقوف، الظاهرة الأولى هي الحملة المتعددة المصادر على سلاح المقاومة، من حد أدنى عنوانه الحديث عن الحياد وحصرية السلاح بيد الدولة، إلى حد أعلى يخاطب المقاومة بصفتها جالية إيرانية، وتحرك مرجعية روحية كبرى هي بكركي بينهما، وهي تمثل ما تمثل في السياسة الداخلية والعلاقات الخارجية، وتضاف إليها أصوات تجرأت في ظلال سقف بكركي، مهما كان حجمها صغيراً، للحديث عن احتلال إيراني، أو الحديث عن أن التطبيع وجهة نظر وليس موضع إجماع داخلي، وذريعة كل هذه الظاهرة هي الوضع المالي والإقتصادي، والتساؤل من أين نأتي بالأموال، ما دامت المقاومة قد تسببت بفقدان رضا أصحاب الأموال، وغالباً يقول، تسببت المقاومة بتخريب علاقات لبنان بمن يمكن التطلع إليهم لمساعدته.

– الظاهرة الثانية هي تفكيك المناعة التقليدية التي كان الوسط السياسي والحقوقي والإعلامي يملك تجاهها حساسية خاصة، تجاه مسألة حرية التعبير، وقد شكلت ظاهرة الهجوم المتعدد الأطراف لدفع وزير الإعلام جورج قرداحي للاستقالة مؤشراً خطيراً على حجم التحول، حيث الجميع يؤكد يقينه أن الموقف السعودي المبني على التصريح المنسوب للوزير قرداحي قبل أن يصبح وزيراً، ظالم وغير منطقي وليس له أي أساس وفق معادلة الحق والقانون، وعندما قال وزير خارجية السعودية ادراكاً لضعف الحجة في الارتكاز إلى كلام الوزير قرداحي، لم يتغير الموقف الضاغط طلباً لاستقالة الوزير قرداحي تحت شعار يشبه دعوات تقديم قرابين الاسترضاء، بمسمى عصري هو الإقدام على خطوة حسن نية ترضي السعودية، ولم يرف جفن المسؤولين في الدولة والمجتمع وهم يطيحون بما كانوا يصفونه من قبل بإحدى أهم ميزات لبنان، وهي تنوعه وحرية الرأي فيه، ورفض مساءلة الدولة إلا عن مواقفها الرسمية، وبقيت الحملة تتدحرج حتى استقال الوزير الذي تحفظ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على المطلبة باستقالته، وبقي يقول المطلوب خطوة من دون أن يحدد الاستقالة لأنه يخشى أن يسجل على رئيس فرنسا طلب استقالة وزير في دولة ذات سيادة لاسترضاء دولة أخرى، وأن السبب هو تصريح سابق لتولي الوزارة من هذا الوزير، فخجل ماكرون ولم يخجل لبنان، بل فتح عينيه على وسعهما، وقال لم لا، ننحر الحرية والسيادة كرمى لعيون صاحب المال.

– الظاهرة الثالثة هي ما نشهده هذه الساعات مع قرار وزير الداخلية بترحيل معارضين بحرينيين، يتواجدون في لبنان بصفة قانونية، لأنهم عقدوا مؤتمراً صحافياً حقوقياً يعرض لانتهاكات حقوق الإنسان في بلدهم، ومشهود في العالم كله وفي منظمات الأمم المتحدة لمستوى اللياقة والدقة القانونية والسلمية والمستوى الحضاري لأداء المعارضة البحرينية، ومعلوم بالمقابل نوع المعارضين السوريين الذين فتحت أمامهم أبواب لبنان، ونوع العمل الذي كرسوا وجودهم في لبنان للقيام به، سواء من كان منهم متورطاً بأنشطة ارهابية، أو من كان يقدم الإسناد الإعلامي والمالي لهذه الأنشطة، لكن الفارق كبير بين حكومة البحرين التي تشكل أحد كيانات الخليج، ويندرج استغضابها ضمن مفهوم استرضاء صاحب المال، وحكومة سورية يشكل اغضابها استرضاء لصاحب المال، والتغير اللبناني تجاهها يجري على إيقاع تغير موقف صاحب المال الخليجي وليس تعبيراً عن قراءة مختلفة للمصلحة اللبنانية، ووفقاً لمراقبة سريعة يمكن ملاحظة حجم حضور المعارضة البحرينية في دول أوروبية كبريطانيا تقيم أفضل العلاقات بحكومة البحرين يترجمها وجود قاعدة عسكرية بريطانية في البحرين، كدليل على ثقافة الذل السياسي التي ينحدر إليها لبنان، ضارباً بعرض الحائط معادلة كان يتباهى بها بصفته ملجأ المعارضات العربية الديمقراطية، وفقاً لتوصيف شارل مالك قبل أكثر من نصف قرن، والذريعة هي فقط طلب رضا صاحب المال.

– السؤال هو لماذا يستبعد البعض أن يكمل انحدار مشواره تحت ذات الاعتبارات، عندما يقال للبنان إن ثمن التوطين هو مئة مليار دولار على سبيل المثال، أي ما يكفي لسداد الديون وإعادة الودائع، وتحريك النظام المالي والمصرفي بأفضل مما كان عليه؟ والسؤال الموازي هو هل يمكن تصديق من يدعو لنزع سلاح المقاومة، كورقة قوة وحيدة بيد لبنان، عندما يقول إنه يرفض التوطين؟

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى