رياض سلامة يفتعل الأزمات للتعمية على الارتكابات!
} أحمد بهجة*
لا يكاد يمرّ يوم إلا ويصدر عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تعميم أو قرار أو تصريح إعلامي يؤدّي إلى افتعال المزيد من المشاكل والأزمات والتعقيدات، سواء في سوق القطع أو في العلاقة المتأزّمة أصلاً بين المصارف والمودعين الذين باتوا لا يعرفون من أين تأتيهم الضربات الموجعة لا بل القاتلة!
أول الإبداعات بدأ قبل نحو ثلاثة عقود حين تمّ تثبيت سعر الصرف في سوق القطع، رغم أنّ العديد من الخبراء والعارفين أطلقوا تحذيرات كثيرة منذ ذلك الحين من مغبة سياسة التثبيت المخالفة لمبادئ الاقتصاد الحرّ، فضلاً عن تكلفتها العالية جداً التي ستؤدّي بلبنان واقتصاده وناسه إلى الكارثة، وبعض هذه التحذيرات مسجل وموثق بالصوت والصورة، لا سيما الجلسة الشهيرة لمجلس النواب عام 1998 التي كانت مخصصة لمناقشة وإقرار الموازنة العامة، حيث طلبت الحكومة حينذاك الإذن بإصدار سندات خزينة بالعملات الأجنبية بقيمة ملياري دولار، بهدف تأمين القدرة لمصرف لبنان ووزارة المالية على الاستمرار في تمويل كلفة تثبيت سعر الصرف.
وهذا ما حصل بالفعل، وشكل إيذاناً ببدء المسار الذي استمرّ لاحقاً مع مؤتمرات باريس 1 و 2 و 3، والتي كانت تعقد بعناوين فضفاضة حول الإصلاحات وخطط النهوض الاقتصادي والمالي وغير ذلك، لتنتهي إلى تأمين بعض الأموال فقط لخدمة الدين العام المتعاظم عاماً بعد عام، وأيضاً مرة جديدة لتأمين كلفة تثبيت أسعار الصرف. وهذا هو ما أوصل لبنان إلى الكارثة بدلاً من استكمال مسيرة الإعمار والنهوض التي وُعد بها اللبنانيون بعد انتهاء الحرب الداخلية مع مطلع تسعينات القرن الماضي، وبشكل خاص بعد انتخابات العام 1992.
وها نحن اليوم وصلنا بالفعل إلى الكارثة، وبدلاً من الاعتراف بما اقترفت يداه من جرائم بحق الناس، يواصل «الحاكم» السياسة نفسها مع الكثير من التعالي و»تكبير الرأس»، فإذا بنا ننتقل من السعر الجامد والثابت لسعر الصرف إلى أسعار صرف لا حصر لها، بل نجد أنفسنا كلّ يوم أمام بدعة جديدة وسعر جديد…
بداية شهدنا ولا نزال تسعيرة السوق السوداء التي تُثار حولها الشكوك والتساؤلات، حيث تدلّ حركة هذه السوق الى أنّ هناك جهات تديرها، والبعض لا يعفي «الحاكم» من ذلك، إذ كيف يمكن تحديد سعر صرف الدولار أيام العطل والإقفال؟ أو كيف يمكن أن يرتفع أو ينخفض سعر الصرف الساعة الواحدة بعد منتصف الليل مثلاً؟
ثم كرّت سبحة أسعار الصرف… من الدولار «اللولار» الذي كان سعره في البداية 3900 ليرة وأصبح اليوم 8000 ليرة، مع إضافة بلبلة جديدة على هذا السعر، حيث سُمح للمصارف بأن تعطي صاحب الحساب قيمة ما سحبه بالدولار على أساس سعر منصة صيرفة، ثمّ الدولار الطالبي، ودولار المحروقات، ودولار الدواء، ودولار الاستشفاء، ودولار الاغتراب للبعثات والسفارات، ودولار الجمارك، وربما غداً دولار الاتصالات، ودولار الكهرباء…
ولا ننسى هنا البدعة الشيطانية التي انتشرت بفعل فاعل حول عدم القبول بالدولار الأبيض (الطبعة القديمة) بهدف تشليح الناس مدّخراتهم في منازلهم، وهو ما اضطر السفارة الأميركية في لبنان إلى إصدار بيان أكدت فيه أنّ البنك الفدرالي الأميركي هو الجهة الوحيدة المخوّلة تحديد صلاحية أو عدم صلاحية أوراق الدولار المنتشرة في أنحاء العالم، والبيان طبعاً لم يكن من باب الحرص على أموال اللبنانيين بل حرصاً على سمعة العملة الأميركية، وهو ما لم تفعله السلطات النقدية والمالية عندنا مع الأسف…!
على أنّ الهدف من كلّ هذه البلبلة ليس سوى التعمية على الارتكابات الممتدّة لأكثر من ثلاثة عقود، ومن ضمنها تأتي محاولة ردم الفجوة المالية المقدّرة بنحو 69 مليار دولار وفق الأرقام الرسمية المعلنة على لسان أكثر من طرف في اللجنة الحكومية المكلفة بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي، علماً أنّ أرقام الخسائر هي أكثر من ذلك، إلا إذا كان المقصود من رقم الـ 69 مليار دولار هو فقط خسائر مصرف لبنان، لأنّ هناك فجوة في وزارة المالية مقدّرة بنحو 27 مليار دولار، وهو رقم أصبح في عهدة ديوان المحاسبة منذ مطلع العام 2019.
إضافة إلى ذلك هناك خسائر القطاع المصرفي حيث تبخّرت أموال المودعين التي كانت قبل تشرين الأول 2019 تقدّر بنحو 120 مليار دولار يُضاف إليها نحو 65 مليار دولار قيمة الودائع بالليرة اللبنانية على أساس دولار 1500 ليرة، والتي صارت قيمتها اليوم أقلّ من 6 مليارات دولار، ويُسمح لأصحابها بالسحب منها بالقطارة، فضلاً عن ضياع الودائع بالدولار.
طبعاً الحلول صعبة جداً وتحتاج إلى وقت غير قليل شرط أن تكون البداية صحيحة، والبداية الصحيحة لا يمكن أن تكون في عهدة مَن كان مسؤولاً عن حصول الكارثة…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*خبير اقتصادي ومالي