هكذا حلّ سليماني معضلة الأممية أو «تصدير الثورة»
ناصر قنديل
– تواجه كلّ ثورة عقائدية ذات بعد عابر للحدود القومية معضلة الإجابة عن سؤال تخطي خصوصيتها نحو العالمية، وهذا ما حدث مع الثورة البلشفية بعد انتصارها في روسيا عام 1917، وأدّى إلى انشقاقات في صفوف قياداتها أخرجت أحد كبار قادة الحزب آنذاك ليون تروتسكي، الذي اتهم قيادة جوزيف ستالين بتغليب مصلحة الدولة القومية في روسيا على المفهوم الأممي للثورة الشيوعية، وما يتطلبه هذا المفهوم من مواصلة المواجهة مع المشروع الإمبريالي، رافعاً شعار الثورة الدائمة، وصولاً إلى اتهامه القيادة السوفياتية الرسمية بالانحراف نحو تقاسم نفوذ استعماري مع دول الغرب على حساب المفهوم الثوري، وحاولت الثورة الصينية في زمن ماوتسي تونغ حلّ هذه المعضلة عبر الدعم الذي قدمته لثورات الهند الصينية في فيتنام وكمبوديا ولاوس، ورغم تحقيق ما عُرف بالماوية انتشاراً واسعاً في السبعينيات من القرن الماضي، ما لبثت هذه الموجة أن تراجعت لأنّ هذه الثورات أخذت بعد انتصارها مساراً بعيداً عن المسار الصيني، وحاولت فنزويلا مع هوغو تشافيز تنظيم المناخ الثوري لإرث سيمون بوليفار فأطلقت مداً ثورياً في أميركا اللاتينية تحوّل إلى حالة مدّ وجزر تحت تأثير تقدّم وتراجع الرياح الثورية، ونجحت كوبا بعد انتصار ثورتها بتقديم نموذج ثوري بقي ملهماً للثوريين في العالم مع شخصية القائد أرنستو تشي غيفارا الذي ترك السلطة في كوبا وانتقل لتنظيم الثورات في أميركا اللاتينية ودعمها حتى استشهاده.
– تعامل الغرب مع مفهوم أممية الثورات العقائدية ذات الطابع العابر للقوميات، بصفته تهمة أسماها السعي لتصدير الثورة، كتعبير عن بناء نفوذ أجنبي داخل دول أخرى لحساب الدولة الناشئة عن الثورة، وعانت إيران ولا تزال من اتهامها بالسعي لنقل الخمينية كنموذج يخص إيران إلى بلدان لها خصوصيات مختلفة، مرة بتهمة السعي لفرض التشيع، ومرة باعتماد دعم حركات على أساس مذهبي لبناء هلال شيعي يمثل امتداداً للنفوذ الإيراني، ولطالما اتهمت حركات المقاومة الحليفة لإيران بأنها تنفذ مشروعاً إيرانياً، وأنها تخدم بمعاركها مقتضيات حاجات إيرانية تفاوضية، ورفعت مثل هذه الاتهامات بوجه المقاومة الإسلامية في لبنان مراراً، خصوصاً تهمة ضبط إيقاع معاركها لتخديم المفاوضات على الملف النووي الإيراني، ولا تزال التهم التي تواجهها قوى المقاومة في المنطقة من لبنان الى العراق واليمن وفلسطين تتخذ هذا العنوان.
– يعترف العالم الغربي والعربي وتعترف حكومة كيان الإحتلال، بأنّ إيران نجحت ببناء نموذج مختلف وقابل للحياة لخطة عبور الحدود، بصورة تجاوزت الحواجز التي وقفت عندها ثورات أخرى، ومما لا شك فيه أنّ إيران حققت هذا النجاح لأنها درست جيداً تجارب الآخرين، بعدما عرفت إثر انتصارها تجارب اختبارية عديدة تحت هذا العنوان، وقد رست الخيارات الإيرانية المدروسة على ثلاثية مبدئية وإبداعية، فقد قدّمت لها تجربة المقاومة في لبنان المثال على مصداقية القضية النضالية بوجه كيان الاحتلال من جاذبية ومن حضور وانتشار، وقدّم لها شعار الإمام الخميني مفجر الثورة وقائدها، اليوم إيران وغداً فلسطين شعاراً ملهماً لترجمة مضمون عالميتها بجعل القضية الفلسطينية ورمزية القدس عنواناً لهذه العالمية، وقد جاء إعلان اليوم العالمي للقدس ترجمة أولى لهذا الشعار وجاء التطبيق مصداقاً لصحة النظرية، ونجحت القيادة الإيرانية باختيار نخبة قياداتها العقائدية والجهادية والإنسانية، التي مثل الجنرال قاسم سليماني، الذي عُيّن قائداً لفيلق القدس، نموذجها الفذ بمواهبه وأخلاقياته ووعيه التاريخي والإنساني، وحجم التصاقه بإيمانه العقائدي بطريقة جاذبة احتوائية تفاعلية، وشجاعته النادرة وعبقريته العسكرية واستعداده العالي للتضحية، لتتشكل من هذه الثلاثية، المقاومة والقدس وسليماني، معادلة الشرق الأوسط الجديد المناهض للهيمنة الأميركية، وتولد منها معادلة محور المقاومة.
– يعود لسليماني فضل تحوّل العلاقة بين قوى المقاومة في المنطقة إلى محور، رغم المكانة المميّزة لقائد المقاومة الإسلامية في لبنان السيد حسن نصرالله عند قادة هذه الفصائل وقواعدها الشعبية وعند سليماني نفسه، فقد كان المحور يحتاج لقائد ميداني يتنقل بين ساحاته، ويلبّي حاجاته، ويشكل مثالاً مشرقاً في درجة التفاني والأخلاق والتواضع والعلم والخبرة والصدق والشجاعة، تشبه ما عند السيد نصرالله، وتتمثل ما يقدّمانه معاً من خصال لقائد الثورة الإسلامية ومرشدها في ولايتي الإمام الخميني والإمام الخامنئي، ونجح سليماني بالفوز بهذا التحدي بجدارة فأحبه اللبنانيون والفلسطينيون والسوريون والعراقيون واليمنيون والأفغان والباكستانيون، ونجح بتجاوز خطوط التفرقة المذهبية والعقائدية وانفتح على كل تيارات وحركات وقوى المقاومة، ونسج علاقات تحالفية مع روسيا تحوّلت تنسيقاً قائماً على ثقة استثنائية جمعته بالرئيس فلاديمير بوتين، حتى بلغت الأمور مرحلة أن يسأل بوتين قياداته العسكرية عند تقديم أيّ مقترح يتصل بالحرب في سورية، ماذا يقول سليماني، ووصل تأثيره واهتمامه الى فنزويلا مترجماً مفهوم جبهة المستضعفين الذي رفعه الإمام الخميني، وتحوّل مع سليماني الى واقع.
– خلال السنوات الأخيرة كان سليماني قد ترجم نجاحاته المعقدة والمتعدّدة بانتصارات للمحور في سورية والعراق ترجمتها نهاية تنظيم داعش، وكان شريكاً في صناعة نصر سورية على الحرب العالمية التي استهدفتها، كما كانت بصماته ظاهرة في معادلة الردع التي صنعتها المقاومة في فلسطين وجسدتها معركة سيف القدس، وكان الجندي المجهول المعلوم للصواريخ الدقيقة لدى المقاومة في لبنان، ولصعود مقدرات أنصار الله في اليمن نحو الإمساك بأمن الخليج، فرسم نهاية الهيمنة الأميركية في المنطقة، ودخول كيان الاحتلال في المأزق الوجودي، وجاء اغتياله ليكشف عن حجم الدفق العاطفي الذي اختزنه في قلوب محبّيه داخل إيران وخارجها، ليشكل معادلة ردع إضافية تحمي إيران وتسند قوتها، وتوحد فصائل المقاومة وترفع من شأن محورها.