عشر سنوات على «ثورة الأرز» اللبنانية… أو ما تبقّى منها ١

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

منذ أيام، أعلِن عن قيام ما سمّي «المجلس الوطني» لقوى 14 آذار، وذلك خلال اجتماعٍ نُظّم بمناسبة مرور عشر سنوات على تشكيل هذا الحلف، الذي أبصر النور بُعيد اغتيال رئيس الوزراء اللبنانيّ الأسبق رفيق الحريري.

«المجلس الوطني» ذلك، قال عنه رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة، إنّه «إطار يجمع الأحزاب والمستقلين»، وستؤلّف هيئة تحضيرية مهمتها اقتراح برنامج العمل للمرحلة المقبلة، ووضع نظامها الداخلي. فهل يكون هذا المجلس بديلاً عن «تحالف» 14 آذار؟ أم أنّه «فذلكة» لغربلة المنضوين تحت لواء هذا التحالف. خصوصاً أنّ السنيورة قال الكلمة عينها التي ألقاها منذ أيام وأعلن قيام «المجلس الوطني» فيها: «إننا نطلق اليوم، دينامية جديدة من شأنها إذا لم تستطع وقف العنف في هذه المرحلة أن تحدَّ على الأقلّ من آثاره، وأن تمهّد الطريق إلى انتفاضة سلام صارت اليوم شرطاً ضرورياً لبقائنا في وطنٍ ودولة… من أجل ذلك، ندعو جميع اللبنانيين إلى التواصل مع قوى الاعتدال والانفتاح والديمقراطية في العالم العربي التي تناهض التطرّف وتدعو إلى التسامح وذلك في سبيل قيام عالمٍ عربي مستنير، حيث يشكل التنوّع الثقافي والديني والعرقيّ الفذّ مصدر غنىً حضارياً، عالمٌ قادر على إعادة الوصل مع تراث النهضة العربية».

ترى؟ أي قوى اعتدال وانفتاح ديمقراطية في العالم العربي يتحدّث عنها السنيورة؟ أهي المملكة العربية السعودية التي توغل في دعم الإرهاب، وفي قمع مواطنيها، وفي نبذ الديمقراطية؟ أم قطر التي لا «تستحي» من دعم «داعش»؟ أم البحرين التي تقتل المطالبين بمتنفسات من الحرّية؟ هل يقصد مصر التي انتفضت على ربيع عربيّ تمخّض عنه وصول التطرّف الإسلاميّ إلى سدّة الحكم؟ أم يقصد تونس التي تحاول اليوم أن تبرأ من حمّى «الربيع العربي»، أم ليبيا المهدّدة بأن تكون ولاية «داعش» الأولى في في شمال أفريقيا… ربما يقصد المغرب، تلك المملكة التي ما زال ضابط عسكريّ فيها يقبّل يد ابن الملك أمام الجموع… أو ربما يقصد جزر القمر.

بالعودة إلى قوى 14 آذار، واجتماعها الأخير الذي قيل إنّه ضمّ 400 شخصية بين رؤساء أحزاب وممثلين عن أخرى، وممثلين عن قوى في المجتمع المدني، فإنّ هذا الرقم ـ 400 ـ مهما اختصر من آلافٍ خلفه، يبقى ليبرهن أن هذه القوى في تراجع مستمرّ على الصعيد الشعبي. وبمقارنة بسيطة بين التظاهرة الضخمة التي أعقبت اغتيال الحريري عام 2005، وبين كل التظاهرات أو التجمّعات التي تلتها في السنوات اللاحقة، نرى كيف تتراجع هذه الشعبية. ولا عجب إن رأينا ذات سنة، 14 آذرياً فقط، يحتفلون بأيّ يوبيل لهذا التحالف، مهما أسّس من «مجالس وطنية».

تقريرنا التالي، ترجمة لمقال كتبته شارمين نارواني معلِّقة ومحلّلة في جغرافيا الشرق الأوسط السياسية لوكالة «RT»، وفيه تطالعنا أسماء لم يألفها اللبنانيون، وربما مرّت بسرّية في تحقيقات المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري. تلك الأسماء التي كان لها دور بارز في تجييش المواطنين اللبنانيين للنزول إلى الشارع، إن كان عبر الشعارات، أو عبر… الدولارات.

التقرير التالي مجزّأ إلى قسمين، ننشر منه اليوم الحلقة الأولى، على أن تُنشر الثانية بعد أيام قليلة.

تقول شارمين نارواني:

هي قصةٌ بدأت أتابع فصولها بنهم عام 2011 عند انطلاقة الربيع العربي. وكان أحد أصدقائي ممن شاركوا في نشاطات ساحة الشهداء قد أخبرني عن مجموعة صربيّة قدِمت إلى بيروت لتدريب الناس على كيفية القيام بالثورة. وبعد عدد من المقابلات التي أجريتها في هذا الشأن، خلصتُ إلى استنتاج مثير، أن الانتفاضة اللبنانية كانت في المقام الأول مجهوداً لبنانياً. لكن، لا بدّ من وجود بعض الأيادي الأجنبية والأجندات الغربية التي تضطلع بالكثير من كلّ هذا. وها هو ذا مجهودي المتواضع أضعه بين أيديكم لقراءة ما خبرته وتحليله، من سياق الأحداث التي أدّت إلى 14 آذار 2005 ـ والأسابيع التي تلتها.

قبل عشر سنوات، وفي مثل الأسبوع الماضي، احتشد مليون لبناني ـ أي ربع سكان لبنان ـ وسط ساحة الشهداء في بيروت، مطالبين بانسحاب القوات السورية من بلادهم. كانت تلك أكبر وأضخم وأجرأ تظاهرة شهدتها البلاد في تاريخها. وقد اعتمدت فيها ألوان العلم اللبناني البيضاء والحمراء تمايلت الحشود المشجعة بأعدادها المرتفعة في شبه هذيان وطني، مردّدين شعاراتهم المحبوبة من قبل الشباب «الثائر»: الاستقلال، الديمقراطية، الحرية، السيادة، الحقيقة والعدالة. لم يكن لبنان يوماً أكثر غنى من يوم 14 آذار 2005 هذا.

وبعد مرور عشر سنوات، لا يزال المتورطون في «انتفاضة الاستقلال» يسهبون في الحديث عن تحوّلاته، بدءاً من الاغتيال العنيف لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط من العام نفسه، والتي بلغت ذروتها مع انسحاب 14000 من عديد القوات السورية في لبنان في 26 أيلول.

فهل يمكن اعتبار هذا الإنجاز نجاحاً باهراً؟ حسناً … نعم ولا. فالسوريون تركوا البلاد ربما بشكل أسرع مما يمكن لأحد أن يتوقع.

إذاً، اللاعب السوري أصبح خارجاً.

فُكّك الجهاز السياسي السوري في لبنان في وقت قصير نسبياً من قبل خصومه حديثي الولادة… وقف حلفاء سورية على الحياد. تأسست محكمة دولية خاصة بلبنان لمحاكمة قاتلي الحريري… المطالبة بالحقيقة والعدالة.

كانت لحظة تاريخية عابرة «وحّدت لبنان» بمسلميه ومسيحييه وسمحت له بالائتلاف حول قضية مشتركة. تمكّن اللبنانيون من التعبير عن آرائهم بحرّية ومن دون الخوف على أمنهم من انتقام الاستخبارات السورية. وأصبحت الانتخابات البرلمانية التي ستساعد على تقوية الأسس الديمقراطية في البلاد على مسافة شهرين فقط.

وبالسرعة التي انطلقت فيها هذه «الثورة»، خَمَدت أنفاسها، مع رحيل الجندي السوري الأخير عن الأراضي اللبنانية. أُفرغت الخيم في ساحة الشهداء بين عشية وضحاها. بدأت الأحزاب السياسية تساوم حول المستوطنات والتحالفات للانتخابات. أُوقفت كاميرات التلفزة بسبب التدخلات السياسية، وحدث أن تحوّلت القوى السياسية من يد إلى أخرى. كان انقلاب عسكري من نوعٍ آخر ـ إذا جاز التعبير.

خلفية المشهد… أولاً

لا تسير الأمور ببساطة وسلاسة في الشرق الأوسط، ولا يمكننا قراءة تلك التي قادت إلى اغتيال الحريري، استثناءً. فرئيس الوزراء الأسبق كان يستعدّ لخوض انتخابات العام 2005 البرلمانية. وكان قد سبق له أن أخبر السوريين أنه لن يسمح بفرض إملاءاتهم على لائحته الانتخابية، أقلّه علناً غير أن الحريري لم يبتعد كثيراً عن الخط السوري في لبنان.

لعب الميلياردير اللبناني ـ السعودي مع نظرائه السياسيين والتجاريين متعدّدي الجنسيات ـ دوراً بارزاً في بلورة اتفاق الطائف عام 1989، والذي شكّل الأساس لطيّ صفحة الحرب الأهلية اللبنانية، وحضّر الأرضيّة المناسبة للانسحاب السوري من لبنان، وأنشأ ـ في الوقت عينه ـ دعماً خارجياً واسعاً لاستمرار الوصاية على لبنان.

ومع انسحاب «إسرائيل» القسري من لبنان عام 2000، وتغيّر المزاج العام في الدولة الشامية، وبدء سماع الأصوات المطالبة بالانسحاب السوري من لبنان، وأبرزها تلك المسيحية المنبثقة عن «قرنة شهوان» عام 2001 ـ والتي يُعتبر بعض أفرادها من المسؤولين المباشرين عن دعوة القوات السورية إلى التدخل في لبنان عام 1976… لم يتمكن المجتمع اللبناني المسيحي ـ بحلول عام 2004 ـ من جمع التأييد له من خارج قاعدته، لكن يبدو أن المساعدة كانت في طريقها إلى الوصول. فقد أُعيد انتخاب الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في العام نفسه، لفترة رئاسية ثانية في الولايات المتحدة، وما لبثت إدارته أن وضعت تصوراً لموجة جديدة من التدخلات «الديمقراطية» في الشرق الأوسط، وبمساعدة فرنسا هذه المرة. وخلال اجتماعهما في حزيران 2004 في النورماندي، قرّر الرئيسان بوش وجاك شيراك، وضع خلافاتهما المريرة في شأن العراق جانباً وإعادة الانخراط بقوّة في رسم سياسة جديدة لبلاد الشام. ونصّت أولى خطط جدول الأعمال على كيفية ركل خاصرة سورية من الجانب اللبناني، خطوةٌ اعتبرت أساسية نحو ضرب الهدف الأكبر المتمثل في تفكيك تحالفها مع حزب الله وإيران و«حماس». وفي أيلول من العام نفسه، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1559، الذي رعته كل من الولايات المتحدة وفرنسا من دون تسمية سورية علناً، وهو يدعو إلى انسحاب شامل لجميع القوات الأجنبية من الأراضي اللبنانية والكفّ عن التدخل في شؤون الدولة اللبنانية. لم توافق جميع الأطراف اللبنانية ـ بطبيعة الحال ـ على مثل هذا القرار التي رأت إلى القرار عينه على أنه تدخل أجنبيّ في شؤون الدولة اللبنانية.

فهم السوريون بأن الخناق بدأ يضيق عليهم بسرعة كبيرة وبشكل استباقي. ووفقاً لنائب رئيس مجلس النواب والوزير اللبناني آنذاك ـ إيلي الفرزلي ـ الحليف الأورثوذوكسي المؤيد لسورية، والذي حافظ على علاقات جيدة مع الأميركيين ـ فإن الرئيس السوري بشار الأسد قد خطّط مسبقاً لهذا الانسحاب:

«أخبرني الرئيس السوري بشار الأسد ـ شخصياً ـ أنه لن يبقى في البقاع اللبناني وأنه ينوي العودة إلى سورية. وقال الأسد: كثرت الضغوط عليّ و أريد أن أحمي نفسي داخل سورية. لقد قال هذا لي بعد لقاء بوش وشيراك في النورماندي. وأضاف الأسد أيضاً: لا تُفاجأوا إذا علمتم أن سورية أصبحت خارج الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها».

وفي كانون الثاني من عام 2005، قطعت واشنطن جميع علاقاتها مع دمشق. وما لبث أن اغتيل الرئيس رفيق الحريري في انفجار ضخم هزّ العاصمة اللبنانية بيروت في 14 شباط.

تحولٌ كبير في الداخل اللبناني

بُعيد ساعات على اغتيال الحريري، أخذ تحوّل دراماتيكي سريع في التوازن السياسي في الظهور. ويقول خضر الغضبان ـ رئيس المنظمة الشبابية في الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يتزعمه وليد جنبلاط، إن الناس بدأت تتفاعل بشكل مباشر مع هذا الحدث الجلل :«في الساعة الرابعة من بعد الظهر أي بعد مرور ثلاث ساعات على اغتيال الحريري ، دُعينا إلى اجتماع مع رؤساء المنظمات الطلابية والشبابية من الأحزاب السياسية المعارضة وأعلنّا أن النظام السوري هو الذي قتل رفيق الحريري. كانت تلك البداية فقط. وبعد ساعتين، دعا جنبلاط قادة الأحزاب المعارضة إلى اجتماع في منزل الحريري في قريطم، وكتبوا بياناً يطالبون فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان وفقاً لما نصّ عليه اتفاق الطائف معلنين أن جنازة الحريري ستكون بعد يومين وستكون جنازةً جماهيرية. طالبين من الناس الخروج إلى الشوراع. كانت تلك الحركة الاحتجاجية المنظمة الأولى التي نقوم بها».

وعشية جنازة الحريري، شُكّل تحالف غير رسمي لأحزاب المعارضة التي كانت منقسمة في ما بينها حول الوجود العسكري السوري في لبنان، والتي عقدت اجتماعها في فندق «بريستول»، إذ بدأت توجّه «الرسائل» بشكل جدّي لتكوين رؤية موحّدة ومشتركة. وتقول زوجة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط والناشطة الفاعلة في المجتمع المدني والتي لعبت دوراً لوجستياً رئيسياً في انبثاق حركة 14 آذار آنذاك: «قرّرنا أن يرتدي المحتجون الألوان البيضاء والحمراء. ذهبتُ إلى الضاحية لشراء ما يلزم. قصصنا الأقمشة هنا في المكتب لصنع الأوشحة بالألوان المناسبة وأخذتها لهم في اجتماعهم المنعقد في البريستول تلك الليلة».

برزت تطورات عدّة رسمت خطوط تلك المرحلة الهامة:

1 ـ دخلت الأطراف الدرزية والسنيّة بزعامة وليد جنبلاط وسعد الحريري في مشاركة استراتيجية تنادي وللمرة الأولى ـ مع الأطراف المسيحية الأخرى بضرورة الخروج السوري من لبنان.

2 ـ بدأت القصص التي تُحاك وتؤكد بوضوح مسؤولية سورية عن قتل الحريري تسري بين الناس كالنار في الهشيم كخطوة أساسية تالية لطرد السوريين من لبنان.

3 ـ التحدث عن ضرورة الحفاظ على ما أُطلق عليه «الزخم» ـ وهو مصطلح بدأ الجميع باستخدامه بعد «حدث» اغتيال الحريري ـ كتحفيز رئيسي آخر على ضرورة الانسحاب.

وُضعت تصورات فكرة الألوان الحمراء والبيضاء ـ كموضوع أساسي لحركة 14 آذار ـ في مراكز صنع قرار صغيرة كانت قد تشكلت قبل فترة من مقتل الحريري. فثلاثيّ من الأصدقاء المختصّين في العلاقات والاتصالات كإيلي خوري رئيس «ساتشي أند ساتشي» والصحافي والكاتب سمير قصير قائد حركة اليسار الديمقراطي التي تأسست في أيلول 2004 والصحافي وعضو «قرنة شهوان» سمير فرنجية، كانوا هم من عملوا على إرساء قواعدها الأساسية.

«لقد خططنا لحركة الاستقلال 2005، أنا والسميرين قبل سنة من مقتل الحريري»، يؤكد إيلي خوري، ولدى سؤاله عن الدوافع يجيب: «وصول جورج بوش إلى الحكم، الحرب في العراق، الخلاف الحاصل بين الحريري وسورية، وبين جنبلاط والسوريين. كلّ هذا كان يؤشّر إلى ضرورة القيام بخطوة ما، وجميع أنظارنا كانت متجهة نحو انتخابات عام 2005».

جهّز خوري وزميلاه مجموعةً واسعة من الشعارات، اللافتات، الدعائم، وغيرها من المفاهيم على مدى الأشهر بين اغتيال الحريري واعتقال أربعة من الضباط اللبنانيين الموالين لسورية والذين كانوا يترأسون أعلى المناصب السياسية في لبنان.

يدّعي خوري أحقيته بالائتمان على أكثر «الرسائل» تأثيراً في انتفاضة الاستقلال. ويقول أيضاً إن الرسائل «الرسمية» لهذه الحركة تولّدت من رحم اللجنة. إنه نوعٌ من التسويق السياسي وتوجيه الآراء للتشبّه بالثورات «الغربية الملونة» والتي شهدناها منذ فترات غير بعيدة ـ وكان خوري قد اتُّهم بالعمالة الأميركية وبعلاقاته المتعددة مع أفراد من الحكومة الأميركية. وهو يعلّق على ذلك بابتسامة: «جلّ ما قمنا به كان تلخيصاً لتطلعات الناس من خلال بعض الشعارات، ومنحهم تاريخاً محدداً للمباشرة بذلك».

وما لبثت أن انخرطت مجموعات لبنانية عدّة في هذه الحركات النامية في ساحة الشهداء. كمثل شركة إيلي خوري، مجموعة نورا جنبلاط اللوجستية، مجموعة أسما أندراوس اللوجستية لتنظيم الأحداث، مجموعات طلابية وشبابية تمثل الأحزاب السياسية مختلفة الاتجاهات، فضلاً عن مجموعة النهار بقيادة رئيس تحريرها جبران تويني، كلّها تواصلت مع بعضها بشكل يومي في الخيم المنصوبة في ساحة الشهداء.

كان هناك عدد من المحاور الأخرى ذات التأثير والتي تتفاعل مع المجموعات سابقة الذكر كلقاء «البريستول» الذي تزعمه أبرز قائدين في المعارضة أي وليد جنبلاط وسعد الحريري وكذلك التيار الوطني الحرّ والذي يمكن القول أنه كان من أكثر الأحزاب التنظيمية قيمةً على أرض الواقع في ساحة الشهداء. وغيرها من المجموعات التي شملت صحافيين ووسائل إعلام وبرلمانيين.

لكن من ذا الذي كان يموّل كلّ هذه الأنشطة؟

إنه عزّت قريطم، عضو اللجنة التنفيذية لحملة رفيق الحريري الانتخابية، يقول صراحة: «موّلنا نشاطات الجميع. الحريري من أكبر مموّلي هذه الحركة»»

يتفق معظمهم على بيانه هذا ـ فإن التمويل الحريري لم يكن سراً. وعلى سبيل المثال، فإن مركز أسما أندراوس افتتح حساباً مصرفياً تلقى تبرعات بلغت نصف مليون دولار أميركي من المتبرعين اللبنانيين حول العالم. كما أن مجموعتها الناشطة والمؤلفة من ثلاثين مهنياً مختصاً تلقّت أيضاً ـ كالآخرين ـ عدداً من المساعدات العينية.

وتشرح أندراوس ـ التي تتبوأ حالياً رئاسة دائرة العلاقات العامة في «تيار المستقبل»: «كنا مجموعة من الناس المترابطين جيداً ـ كذلك كانت شبكتنا».

هذه واحدة من الانتقادات الكثيرة التي واجهتها «انتفاضة الاستقلال» ـ والتي يُرمز إليها أحياناً بـ«انتفاضة غوتشي». وتُعزى أسباب هذه السخرية إلى أنها انتفاضة بورجوازية، متميزة، ثرية، تشتمل على الناس الأكثر نفوذاً في العالم، تتألف من مجموعة نخبوية صغيرة من الأصدقاء، والزملاء، وذوات الثقل السياسي، بعض ممن قد يلتقطون هاتفهم النقال ليتحدثوا مع رؤساء دول العالم مباشرة.

الجنرال في المنفى

قبل 16 سنة، وتحديداً في 14 آذار 1989، أعلن رئيس التيار الوطني الحرّ الجنرال ميشال عون «حرب التحرير» ضدّ الوجود السوري في لبنان. لكن في 14 آذار 2005، بدا وكأن العونيين قد خسروا قيادة المعارضة التي كانت يتولّونها في مثل هذا التاريخ من كلّ سنة. ويعترف ناشطو المعارضة الذين عملوا جنباً إلى جنب مع العونيين في ساحة الشهداء ومنهم أسما أندراوس بالقول: «كي نكون عادلين، فإن العونيين هم أول من نزلوا إلى الساحات وقاموا بالتظاهرات، لديهم الخبرة في كلّ هذا أكثر من أي أحد آخر، فالأحزاب حول السياسية الأخرى لم تكن تدرك كيفية القيام بهذا».

بدأت تبرز الاختلافات الحادة في وجهات النظر حول الانسحاب السوري من لبنان، حين قرّر أحد الأطراف أن يركب بنفسه موجة المطالبة هذه ـ ووحيداً.

عضو التيار الوطني الحرّ زياد عبس وأحد شخصيات المعارضة الناشطة في التيار الوطني الحرّ، كان أبرز الذين شهدوا على نشوب مثل هذه الخلافات في ساحة الشهداء، يقول: «لاحظنا أن أموراً كثيرة بدأت تحدث من دون مشاركة القوى الفاعلة الأخرى، وذلك قبل أسبوعين من أحداث 14 آذار… نحن لم نوافق أبداً على ملصق الجنرالات الأربعة الموالين لسورية، على سبيل المثال». وحول هذا الملصق تحديداً، تقول أندراوس: «كانت تلك فكرة سمير، وتنفيذ إيلي، أما أنا فقد كنت ساعي البريد الذي ينقل حاجياتهم إلى الساحة، فالاستخبارات لم تكن لتوقف امرأة أو تفتشها».

ويعود عبس ليؤكد أن بعض الاجتماعات التي كانت تحصل في جريدة النهار لم يكن يُدعى إليها قياديي التيار الوطني الحرّ. وقد رشح عن هذه الاجتماعات عدد من القرارات التي غيّرت كثيراً من الوقائع على الأرض. «وقد بلغت هذه الممارسات ذروتها عندما ذهب تحالف 14 آذار إلى باريس بهدف الضغط على الفرنسيين لعدم السماح للجنرال عون بالعودة قبل الانتخابات البرلمانية. حتى أنهم طلبوا تحريك الانتخابات على أعلى المستويات كي يستفيدوا قدر الإمكان من الزخم الموجود. وأصرّوا في ما بعد على المضيّ بقانون الانتخاب الذي فرضه السوريون».

يتحدث وزير الاتصالات السلكية واللاسلكية اللبناني السابق نيكولا صحناوي عن هذه الأحداث المريرة فيقول: «كان من المفترض أن يتحدث الجنرال عون بالصوت والصورة من باريس يوم 14 آذار، إلا أن هذا التسجيل قُطع بثّه، في وقت كان فيه ثلث المتظاهرين المتواجدين في الساحات من مؤيديه. لم يكن يمكن لهذا الحدث أن يبلغ غايته المنشودة من دون وجود الجنرال».

هل أن هذا الرقم مبالغٌ فيه؟ من الصعب قول ذلك. لكن عندما خاض العماد عون الانتخابات النيابية منفرداً بعد مضيّ ثلاثة شهور فقط على تلك الأحداث، استطاع «إبادة» الأحزاب السياسية الأخرى، ليفوز بالغالبية البرلمانية المسيحية، وذلك بحصوله على 21 مقعداً مقارنةً بـ 14 فقط لمؤيدي «قرنة شهوان».

يقول زياد حافظ، وهو أكاديميّ لبناني ومفكر قوميّ عربي بارز: «إن المحتجين العونيين شكلوا العمود الفقري لتحالف 14 آذار، لكنهمن شعروا بالخيبة والغدر. وبعد أن أُبعد عون عن هذا التحالف صيف 2005، لم تعُد هذه الحركة قاردةً على حشد النوع نفسه من التظاهرات مرة أخرى».

إذاً، هل خُطفت حركة 14 آذار؟ يؤكد حافظ: «عندما تعني السيادة الاستقلال، من ذا الذي يستطيع النقاش في ذلك؟ لكن عندما تعني السيادة أن تصبح معادياً للسوري ومعادياً للمقاومة، يعني أن الناس بدأت تشتمّ بعض الروائح الكريهة».

لا يلوم عبس معظم الذين تورطوا في كلّ هذا، ويقول في هذا الصدد: «إن الأشخاص الذين شاركوا في أحداث 14 آذار، هم أناس صادقون، رأوا هذا الاتجاه وأصرّوا على تكوين النظام الجديد».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى