طرابلس تستعيد حياتها الطبيعية ووجهها الوطني

عبدالله خالد

تميّز الأسبوع الفائت بمجموعة حوادث تؤكد استعادة طرابلس وجهها الوطني والقومي، النابع من كونها مدينة متدينة بلا تعصب لم تنجح محاولات خطفها، مقدمة لحرفها عن تاريخها المشرق الذي عرفت به عبر التاريخ كمدينة عربية حاربت محاولات التتريك الطورانية ومساعي التغريب في عهد الانتداب وإبعادها عن مجالها الحيوي مدينة أساسية في بلاد الشام.

الحدث الأول تمثل في احتفالها بذكرى تحريرها من غزو الفرنجة، في ما عرف بـ»الحروب الصليبية» على يد السلطان قلاوون. وتميّز الحدث الثاني باستهجانها واستنكارها ترشيح سمير جعجع لمنصب رئاسة الجمهورية، وهو الذي اغتال أحد أبرز قادتها رشيد كرامي وخرج بعفو خاص من السجن الذي أمضى فيه أحد عشر عاماً كان مفترضاً به بعدها أن يعلن توبته ويقدم اعتذاراً إلى طرابلس وأسرة الشهيد كرامي، لكنه آثر أن يستمرّ في غيّه، ما جعل أبناء طرابلس يعبّرون عن غضبهم من الترشيح الذي اعتبروه تحدّياً لمدينتهم واستفزازاً لمشاعرهم. وتم التعبير عن هذا الغضب بمئات اليافطات وعشرات التصريحات من قادة المجتمع المدني توّجت بزيارات شعبية لضريح الرئيس الشهيد في مقبرة باب الرمل. كما أن أربعة من نواب طرابلس، هم الرئيس نجيب ميقاتي والوزيران محمد الصفدي وأحمد كرامي والنائب محمد عبداللطيف كبارة رفضوا هذا الترشيح وفضلوا التضامن مع مشاعر أبناء مدينتهم.

تمثل الحدث الثالث بالعديد من الأنشطة التي قام بها المجتمع الأهلي والمدني على الصعد كافة للإيحاء بأن طرابلس عادت إلى طبيعتها، والدليل الأنشطة الثقافية والرياضية والاحتفالات الموسيقية والفنية وتنشيط الحركة التجارية عبر الترويج للتسوق عبر حسم نسب مئوية من الأسعار لتحفيز أبناء المدينة وجوارها على الشراء، بعدما خيم الأمن على ربوعها واستعاد السلم الأهلي مناخه الذي جعل أبناء زغرتا والكورة والضنية والمنية يقصدونها بعد طول غياب فرضه التوتر الأمني الذي ساد عاصمة الشمال.

هكذا أصبح الجميع يشعرون بأن لا بديل من العودة إلى خيار الدولة الذي يوفر وحده الأمن والاستقرار ويحقق العدالة وتكافؤ الفرص بين المواطنين من دون تحيز أو محاباة لهذا الطرف أو ذاك. عبر أبناء طرابلس بأساليب مختلفة عن التفافهم حول الجيش والقوى الأمنية ودعمهم الخطة الأمنية التي يقومون بتنفيذها، وشدّدوا على عدم التهاون مع المخلّين بالأمن والتعامل بحزم بهم. وقوّموا عالياً الزيارات المتكررة لطرابلس التي قام بها قائد الجيش العماد جان قهوجي وقادة الأجهزة الأمنية الأخرى الذين عبروا من خلال التصريحات التي أدلوا بها خلال وجودهم في المدينة وأكدوا فيها على أن لا تراجع عن تنفيذ الخطة الأمنية وأنهم سيقومون بواجبهم على أكمل وجه بعدما صدر القرار السياسي ورفع الغطاء السياسي عن كل مخلّ بالأمن أو عامل على تفجير الوضع الأمني مرة أخرى.

في المقابل، سعت القوى المتضررة من تنفيذ الخطة الأمنية في طرابلس إلى عرقلتها عبر إلقاء بعض القنابل والمتفجرات في بعض الأحياء وتحريض الأهالي على مواجهة عملية تنفيذها والمطالبة بإصدار عفو عام عن قادة المحاور ترافق مع ظهور بعضهم في أكثر من منطقة، في محاولة يائسة للإيحاء بأنهم ما زالوا موجودين. وكان الهدف الرئيسي لهذا الحراك المحدود الإيحاء أن في مستطاعهم عرقلة مسيرة الأمن إذا لم يحسب حسابهم في أي تسوية مقبلة، متجاهلين أنهم خلال جولات الاقتتال فرضوا هيمنتهم بالقوة ومارسوا التجاوزات التي أفقدتهم الحاضنة الشعبية التي توهّموا أنهم يمتلكونها، بدليل عدم توافر أي تجاوب معهم في المناطق كانوا فيها، باستثناء قلة ضئيلة من أهالي المطلوبين أو بعض المستفيدين من وجودهم. وهكذا اضطروا إلى مغادرة المدينة والاختباء في أطراف الضنية والمنية، فضلاً عن أن بعضهم حرص على مغادرة لبنان.

الأمر المؤكد أن المرحلة الضبابية الملتبسة التي سادت الوضع في طرابلس مع بدء الخطة الأمنية أوشكت على الزوال لمصلحة مرحلة أكثر وضوحاً تبرز التصميم على إنهاء الاقتتال في طرابلس وطي صفحة دور قادة المحاور وتثبيت منطق عودة الدولة بكل ما يعنيه هذا المنطق من التزامات منها حيال طرابلس، تحديداً على صعيد التنمية التي تشكل المدخل الوحيد لتقليص حدة الأوضاع المعيشية الصعبة التي سادت طرابلس نتيجة تفشي البطالة وما يرافقها من فقر وتخلف وجهل يجعل شبابها عرضة للانجرار وراء مشاريع مشبوهة لتأمين لقمة العيش لعائلاتهم. بات المواطن الطرابلسي يشعر بأن واجبه الوطني يفرض عليه أن الانحياز إلى منطق الدولة ويدعم الجيش والقوى الأمنية ويجاهر برفضه عودة قادة المحاور وإصراره على مواجهتهم مهما كلفه ذلك من تضحيات.

يكاد زائر طرابلس هذه الأيام لا يصدق ما تراه عيناه من استقرار أمني ونشاط اجتماعي- ثقافي وعودة الحياة إلى طبيعتها في المناطق التي شهدت الاشتباكات الدامية في الفترة الأخيرة. والأمل أن يستمر هذا الوضع، علماً أنه في حاجة إلى تعاون جاد ومخلص بين الدولة ممثلة بجيشها وقواها الأمنية وجهازها الإداري وأبناء المدينة الذين عانوا الأمرّين خلال الحوادث كنتيجة طبيعية لاختطاف المدينة ومصادرة قرار أهلها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى