حرب «الأيام الخمسة»… ورسائل القوة الاستراتيجية في معادلة الممنوع!
} فاديا مطر
منذ الحرب العالمية الثانية وحقبة الحرب الباردة والهمّ الأميركي منصبّ على كسر جبل الجليد السوفياتي أو إذابته على الأقلّ، لكن العام 1991 أذاب قمته ولم يستطع التغلب على قاعدته في روسيا الاتحادية التي احتفظت بفكر الدولة السوفياتية العميقة وإمكاناتها، فروسيا بادرت في حرب «الأيام الخمسة» في كازاخستان إلى حماية مصالحها ومصالح شركائها الجيواستراتيجية من التهديد، وحماية الحدود من اختراقات «مخالب» الناتو، لأنها تعلم أنّ الزجّ بمجموعات الإيديولوجيا الدينية الراديكالية المنتشرة في آسيا الوسطى والشرق الأوسط المموّلة والمدعومة من حلف واشنطن، تحتاج إلى حلّ جذري لا يحتمل الانتظار، حيث كان إحباط انقلاب كازاخستان صاحب البصمات الأميركية والصهيونية على الطريقة الشرق أوسطية هو حماية للدولة الكازاخية وعدم استنزافها لتتحوّل الى حرب عصابات متطرفة لتصبح بوابة لتدويل الأمر والتدخل فيها لتشكيل جبهة تستنزف حتى الجيش الكازاخي للدفع نحو عدم الاستقرار في الحدود الجنوبية لروسيا، بالتزامن مع الحدود الغربية، وللبحث من خلال تلك البوابة عن حلقة وصل تجعل من «الماأتا» مع الحدود الشرقية لأوروبا حديقة نووية جديدة للناتو في مقابل روسيا، بعد أن كانت واشنطن وموسكو قد خفضتا ترسانتيهما النوويتين بعد الحرب العالمية الثانية في ذروة الحرب الباردة من 170 ألف الى 14 ألف تمهيداً للحدّ من التسلح النووي، لكن الدخول الى أوكرانيا من بوابة إشعال فتيل تقرّب الناتو كان بمثابة عود الثقاب الذي بدأ بالاشتعال، والذي تتهم واشنطن موسكو به بأنها تزرع خلايا مدرّبة على حرب المدن والتفخيخ لافتعال أحداث تمنح موسكو الذريعة لاقتحام أوكرانيا بحسب المتحدثة باسم البيت الأبيض «جين ساكي» والمتحدث باسم البنتاغون «جون كيربي»، إنما هو إيذان لحرب إعلامية على طريقة «كولن باول وجون بولتون».
من جهة أخرى هو عدم قبول بالضمانات الأمنية الروسية التي تنتظر موسكو الردّ المكتوب عليها من قبل واشنطن والناتو، حيث عبرت فيها أوروبا عبور المهمل خصوصاً بعد إتفاقية مينسك للعام 2015 والتي لم تشارك فيها بريطانيا والولايات المتحدة آنذاك، مما يدلّ على نية واشنطن وحلفائها دخول البيت الروسي ولو من باب «الفتنة» المطبوخة في مطابخ كييف التي أصبحت متخمة بمكاتب مخابرات الناتو والتي تتلقى دعم أميركي وأطلسي عسكري مباشر للسلاح الإستراتيجي الغربي، حيث يسعى الحلف لحجز مقعده في منطقة تتشابك فيها المصالح الجيوإستراتيجية الروسية والصينية نحو أوروبا لتعويض التأخر عن فقدان مقعد آسيا الوسطى وبناء حلقة الضغط حول موسكو وبكين معاً، وبحسب صحيفة الأندبندنت فإنّ الصين «تعمل بإتجاه تقديم مساعدات لكازاخستان منعاً لعدم الاستقرار في آسيا الوسطى خوفاً من تأثير الوضع على إقليم شينغيانغ»، والذي هو معبر النقل الأقرب الى أوروبا في مشروع الحزام والطريق، فضلاً عن التعاون الصيني مع كازاخستان في مجال الطاقة والتجارة والاستثمارات الحيوية، فهي منطقة تريد منها واشنطن أن تكون بنك أهداف استراتيجية مقابل ورقة ضمانات موسكو وحصار بكين معاً.
لكن العمل الروسي كان الأسبق في معادلة «الممنوع» لجهة أنّ كازاخستان كانت أول اختبار لقوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي وإثبات أنّ هذه الوحدات العسكرية هي ذات قدرة على التحرك بالسلاح المتقدّم والتكتيك المنسّق لتكون فعّالة في التعامل مع حرب العصابات والمدن بالشكل البري والمجوقل وهي قادرة على التدخل السريع لحسم أيّ معركة على طول الحدود وخصوصاً الجنوبية الروسية البالغة 7600 كم، فهي رسائل مهمة واستراتيجية بالشكل العسكري لكلّ من الناتو وكييف معاً بمعادلة اللاءات التي طرحتها موسكو من لا للثورات الملونة ولا للاقتراب الأطلسي من الحدود الروسية ووضع السلاح الهجومي فيها ولا لضمّ المزيد من دول شرق أوروبا لحلف الناتو، حيث كان ردّ حرب الأيام الخمسة الذي بدأ في 6 يناير/ كانون الثاني الحالي هو بمثابة رسالة لبؤر التوتير المفتعلة والتي عبّرت عنها صحيفة «لوفيغارو» بأنّ «الرئيس بوتين قدم عشية المفاوضات مع أميركا ومسدّسه على الطاولة، في وقت بدا فيه الأميركيون وقد سلموا سلاحهم»، فالمصالح الروسية والأمن القومي الروسي من الخطوط الحمراء التي وضعتها موسكو بعلم «جيمس بيكر» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واللعب في ميدان الفضاء السوفياتي هو لعب خطير جداً بحسب ما قالته صحيفة «الغارديان» في 9 كانون الثاني/ يناير الحالي بأنّ «في حال شنّ الرئيس بوتين حرباً على كييف، فسيكون ذلك إيذاناً ببدء حرب كبرى لم يشهدها العالم منذ الحرب على العراق في 2003»، وهو تحذير في معادلة «الممنوع» الروسية والتي لن تسمح بالمساس بالمصالح والمجال الحيوي الروسي خصوصاً في كاراخستان التي يعيش فيها قرابة 4 ملايين من أصل روسي وتمتلك روسيا فيها قواعد استراتيجية مثل (محطة كوزمودروم ومجموعة ساري شاجان لإختبار الصواريخ البالستية العابرة للقارات وقاعدة بايكونور الفضائية التي تبلغ مساحتها أكثر من 100 كم2 )، فمنظمة معاهدة الأمن الجماعي بخمسة دولها وعبر خمسة أيام باتت رسائل هامة عسكرية وسياسية تمنع التلاعب بالمحيط الروسي ومانعاً لتنفيذ سياسات الناتو وواشنطن أيّاً كان نوعها أو ما شابهها، فهل سيصدق قول الرئيس بوتين بأنّ «أحداث كازاخستان ليست الأولى ولن تكون الأخيرة؟ وهل ستكون أوكرانيا درساً كبيراً لجهة إنْ فشلت الضمانات الأمنية؟ فرسالة عودة قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي لقواعدها من الماأتا منتصرة هي أبلغ من رسالة تحرّكها إنْ كانت واشنطن قد قرأت المشهد الصحيح…