سهرة مع السيد هاشم صفيّ الدين
ناصر قنديل
– استضاف مسؤول العلاقات الإعلاميّة في حزب الله الحاج محمد عفيف في منزله دعوة اللقاء الوطني الإعلامي لعدد من الشخصيات الإعلامية والثقافية والأكاديمية قارب الخمسين شخصية، لحوار مع رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين، الذي قدّم ملخصاً سريعاً لقراءة الحزب للمشهد اللبناني بخلفياته التاريخية الخارجية والداخلية، وأجاب على الأسئلة والمداخلات، وكان اللقاء بذاته وتنوّعه ومستوى الحضور، وبمستوى العرض والإجابات التي قدّمها السيد صفي الدين وصراحتها وعمقها، نموذجاً لرقي تجربة المقاومة وتفوقها الفكري والثقافي والأخلاقي والوطني، ربما يصعب على الكثير من القوى السياسية مجاراة حزب الله في اعتماده منهجاً، خصوصا بالنسبة للأحزاب الواقفة على جبهة مناوئي الحزب والمقاومة، وربما يفسّر هذا التفاوت في الأداء أحد وجوه قوة المقاومة وصلابة الأرض التي تقف عليها، ودرجة الثقة التي تتمتع بها بمقاربة الملفات وتحدي التعقيدات واليقين بالفوز في النهايات.
– في العرض التمهيديّ الذي قدّمه السيد صفي الدين، تناول السياق الذي حكم لبنان منذ الطائف على وهم التسوية الدولية الإقليمية التي تأسست في مؤتمر مدريد وما ترتب على هذا الرهان ومن ثم على ضياعه، بمقابل ما كانت المقاومة كخيار تراكمه من الإنجازات التي ترجمت عامي 2000 و2006، بتثبيت انتصاري التحرير والردع. وبالتوازي عرض السيد صفي الدين سياقاً داخلياً ثانياً ناتجاً عن الفشل الذي مني به السياق الأول، وقوامه محاولة تحميل إنجازات المقاومة وانتصاراتها مسؤولية ما نتج عن النظام السياسي والاقتصادي الذي كان بدوره نتاجاً لتركيبة ومؤسسات رعاها الغرب وامتداداته العربية سواء مباشرة أو تحت عناوين المصالح الطائفية وادارة توازناتها وتبايناتها، وبنتيجة فشل هذين السياقين في وقف مسار صعود المقاومة وقوتها وحضورها الشعبي والسياسي يقوم الأميركي اليوم بمغامرة الانقلاب على كل التركيبة القائمة والسعي لتصفير الواقع السياسي والاقتصادي، وهذا بقدر ما يصيب بيئة المقاومة ويضغط عليها، يصيب بيئات كانت ركائز لمشاريع سياسية تخدم العلاقة بالغرب ويضغط عليها أكثر. وفي مواجهة هذا التعقيد ومخاطره تقوم سياسة واستراتيجية حزب الله على الواقعية التي تقرأ الواقع اللبناني بعيداً عن الرغبات. فالتوافق يبقى قدر اللبنانيين ومرتكز صيغتهم السياسية، والانتخابات التي تشكل استحقاقاً مهماً يستعدّ حزب الله لخوضه والفوز بالأغلبية فيه مع حلفائه، لن تشكل حسماً للمشاكل وحلاً لها كما يصوّر البعض، فسيبقى التوافق هو المرجع الحاسم في أي جواب سياسي كبير، والسعي لهذا التوافق يجب أن يبقى هدفاً، مهما بدا صعب المنال. فالتجارب والاختبارات القاسية التي يخوضها اللبنانيون ستوصلهم لحتمية البحث عن قواعد صلبة لبناء هذا التوافق، وحزب الله سيكون جاهزا لذلك. فالقضية تبقى الانطلاق من إرادة التحرر من اي ارتهان للخارج والاستناد الى إرادة وطنية مستقلة في الإجابة عن أسئلة المصلحة اللبنانية.
– في الأجوبة الكثيرة على الأسئلة الكثيرة التي شهدها اللقاء الممتع والمشوق والمليء بالحيوية، برزت مجموعة مواقف أطلقها السيد صفي الدين تستحق التسجيل، أبرزها أن الإجماع الذي تحقق في الدولة اللبنانية حول مزارع شبعا ليس قائماً حول الخط 29 لترسيم الحدود البحرية، وأن حزب الله الذي يلتزم عن قناعة الموقف القائم على حماية الحدود السيادية التي تقرها الدولة اللبنانية عبر مؤسساتها لا ينحاز لأي من المقاربات الخاصة بالترسيم، ولو أنه يتمنى أن تكون حدود السيادة هي الأبعد مدى؛ ومن هذه المواقف أن إجماع حلفاء الحزب على الوقوف مع المقاومة هو إجماع صادق وإستراتيجي ويشكل أساساً لمفهوم التحالف، لكنه يكاد يكون المشترك الوحيد الذي يجمع الحلفاء، مقابل تباين في مقاربة كيفية تحديد الأولويات والمنطلقات في مقاربة الشؤون الداخلية مما حال ويحول دون توحيد جبهة متماسكة تستطيع تشكيل أغلبية حاكمة، لكن حزب الله لم ييأس ولن ييأس من مواصلة المحاولة لتوسيع دائرة المشتركات بينه وبين الحلفاء، وبين بعضهم البعض، رغم سعيه الآن الى وضع اولوية التنسيق والتعاون الانتخابي في مقدمة الأولويات، وفقاً لمعادلة السعي لنيل أكبر الفرص التي تجعل الحصول على الأغلبية النيابية هدفاً ممكن التحقيق.
– في الشأن المحلي أيضاً وقضية القاضي بيطار، لم يخفِ السيد صفي الدين التباين مع التيار الوطني الحر حول أولوية هذا الملف في اهتمامات الحكومة، لكنه متمسك بمعادلة حزب الله القائمة على الاعتبارات الوطنية والأخلاقية والمصلحية معاً، بالتمسك بالأصدقاء والحفاظ على حد المشتركات الذي يرتضونه والسعي لتوسيع نطاقه بكل صبر وأمل. وحول عودة الثنائي الى اجتماعات الحكومة قال السيد صفي الدين، ببساطة ومن دون حاجة لتحليلات خرافية، وصلنا الى نقطة شعرنا ان لا امكانية للاستمرار بالمقاطعة، لأن لا قدرة للناس على تحمل المزيد في ظل حجم المشاكل الضاغطة، وغياب افق لتحقيق تقدم في الملف عبر الاستمرار بالمقاطعة، وان كان تفسير هذا تأكيداً لمحدودية قدرتنا، فليكن. فهذه هي الواقعية التي نقارب بها الملفات والقضايا، وهذا هو لبنان. وعن لبنان هذا قال السيد صفي الدين إن حزب الله ومن خلاله المقاومة يعرف جيداً حجم قوته، والأرض الصلبة التي يقف عليها، وحجم الفشل الذي منيت به محاولات إضعافه، والاستعصاء الذي يصيب المشروع الأميركي ويفرض عليه الاستدارة من خطة الإسقاط إلى التموضع والانخراط، كما جرى في قضية استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سورية، تحت تأثير قرار سفن كسر الحصار الذي اتخذته ونفذته المقاومة، عندما جلبت المازوت الإيراني عبر سورية، لكن حزب الله كما يقول السيد صفي الدين، وهو يدرك كل ذلك ويسعى لتعميقه وتصليبه وتوسيع نطاقه، لا يصيبه “تغوّل الأنا”، ويتوهّم بغرور القوة أن هذه المعادلات تصلح لمقاربة العلاقات بين الأطراف اللبنانية عندما تصبح معادلاتها تعبيراً عن المكونات الطائفية التي تمثلها وتنتمي اليها، فعندها واقعية حزب الله هي بتواضعه، والتواضع هنا ليس مجرد موجب أخلاقي، بل هو الواقعية أيضاً أي فهم حدود الممكن وحدود القدرة.
– في الشأن الإقليمي وضع السيد صفي الدين النبرة العالية للكلام عن السعودية في دائرة الردّ على الاستهداف، فليس لدى حزب الله خطة تصعيد، وبالمقابل ليس لديه الاستعداد للصمت على الاستهداف. وعن فرضية التفاهم السعودي الإيراني، وتأثيره على موقف الحزب قال السيد صفي الدين، المعادلة تبقى هي ذاتها لا خطة تصعيد لدينا ولا نصمت على الاستهداف. وعن مستقبل المقاومة إذا تمت ثلاثية تفاهم في فيينا وتفاهم إيراني وسعودي ونجاح في ترسيم الحدود البحرية، أكد السيد صفي الدين، أن المقاومة بلغت مرحلة من القوة في مشروعها وحضورها ومقدراتها، بحيث إنها تقف على ضفة التلقي الإيجابي لعائدات المتغيرات الإقليمية سواء كانت متغيرات نحو التسويات أو المواجهة، فمشروع المقاومة ليس بنداً على طاولة التفاوض، وهو المشروع الأقدر على احتواء المتغيرات والاستثمار على عائداتها سواء أكانت تصعيداً ام تهدئة، وسلاح المقاومة باق ويزداد قوة، ومن يتعمّق بقراءة كل إنجاز يمكن افتراض تحقيقه عبر ما يجري في الإقليم سيكتشف أن حضور المقاومة عامل حاسم في صناعة هذا الإنجاز.
– تناول السيد صفي الدين مسألة الهوية، في سياق الجواب عن سؤال حول الهوية الجامعة التي تصلح للبنان واللبنانيين، فاستعرض تاريخ لبنان القائم على تعدّد الهويات الثقافية والطائفية والمذهبية، وفشل صيغة لبنان الكبير ولبنان الاستقلال في صناعة تفاهم على هوية جامعة، واعتبر أن هذا التعدد في الهويات هو جوهر الهوية اللبنانية، التي تشبعها توليفة تقوم على أحادية الوصف التي يمكن أن تقدمها الهوية العربية، نافياً أن تكون الفدرالية والكونفدرالية جواباً على أزمات لبنان ومنها أزمة الهوية، مؤكداً رفضها بالمطلق، واصفاً دعاة الفدرالية بالغاضبين من فشل مشروعهم، على طريقة “الزعل” و”الحرد”. فالفرز بين اللبنانيين على أساس مناطقي او طائفي هو الاستحالة بعينها عدا عن أنه لا يجيب عن الأسئلة الحقيقية التي تطرحها الأزمات، مجدداً القول إن لا مستقبل للبنان واللبنانيين خارج التوافق، وأساسه التوافق على هوية، تبدأ من الإقرار بقدر العيش معاً على هذه الجغرافيا المكوّنة من الـ 10452 كلم مربعاً، والمطلوب هو الانتقال من مشروع البحث عن هوية الماضي الى صياغة هوية للمستقبل. فالماضي لن يضخ في الهوية الا الهواجس، وقد باع اللبنانيون واشتروا في القلق فبنوا وطناً هشاً سريع التفسخ والارتهان للخارج، وعندما يقررون البحث بمصير مشترك لوطنهم من موقع إراداتهم الحرة والمستقلة المتعلقة فقط باستكشاف المصلحة الخالصة للبنان واللبنانيين، سيجدون أن الأمر سهل وبسيط ومتاح، وحزب الله ينتظر ويسعى لبلوغ اللبنانيين هذه اللحظة من النضوج بكل انفتاح خارج إطار ما يحاول البعض رميه به من اتهامات حول سعيه لجمهورية إسلامية وروزنامة إيرانية وولاية الفقيه. فأولوية حزب الله لبنانية وتنبع من إيمانه بتوصيف نفسه كحزب لبناني عن قناعة ويقين، وليس سعياً لإرضاء أمزجة أو تفادي غضب أمزجة أخرى. فحزب الله اللبناني يؤمن أن المقاومة تشكل الجحر الأساس في صياغة أية هوية للبنان السيد المستقل، وهذه المقاومة التي تشن عليها الحروب في الإقليم لإضعافها، هي التي تفرض على حزب الله فتح عينيه وأذنيه لما يجري في الإقليم، لكن دائماً من موقع حرص الحزب على كونه حزباً لبنانياً يؤدي مصلحة وطنية لبنانية لبناء شبكة مقاومة تحصّن مقاومته وتحميها.