الغائب الكبير ماركيز متحدّثاً إلى صديقه الأديب ميندوزا: المخيّلة مجرّد أداة لإبراز الواقع 2/2

غياب غبريال غارسيا ماركيز الذي شغل العالم قبل بضعة أيام، لأهميّة موقعه الأدبي والروائيّ والإنسانيّ، يعنينا نحن أيضاً في ثقافة «البناء»، وكنّا خصّصنا صفحة كاملة لغيابه ونتابع اليوم تحيّة الغياب عبر نشر أجزاء من حوارات الكاتب الكولومبي بلينيو ميندوزا، صديق ماركيز، العديدة والطويلة نقلها ابراهيم وطفي إلى العربية ، ويروي فيها الكاتب الكبير الغائب كيف يكتب ويستلهم رواياته وقصصه وشخوصه، وبمن تأثّر أدبيّاً، وأموراً كثيرة متفرقة. وننشر هذه الأجزاء في حلقتين، الأخيرة منهما اليوم.

منيدوزا: إنك تتحدث عن ذلك، لكنك لا تعطي أحداً البتة ما تكتبه لكي يقرأه.

ماركيز: كلا، البتة. إنني أؤمن بالخرافات تقريباً، إذ أرى أن المرء وحيد دوماً أثناء العمل الأدبي، مثل راكب سفينة غرقت وألقت به وسط البحر. بلى، إنها المهنة الأكثر عزلة في العالم، ولا أحد يستطيع أن يساعد المرء في ما يكتبه.

ميندوزا: ما هو المكان المثالي بالنسبة إليك للكتابة؟

ماركيز: قلت ذلك مرات عديدة: صباحاً، على جزيرة مهجورة، ومساء في مدينة كبرى. في الصباح أحتاج إلى هدوء، وعند المساء إلى بعض الخمر وإلى أصدقاء خلّص لكي أتسامر معهم. إني في حاجة دوماً إلى الاتصال بالناس في الشارع ويجب أن أطلع على كل ما هو جديد. ذلك كله مطابق لما قصده وليم فوكنر بملاحظته أن بيت البغاء هو المكان الأكثر ملاءمة للكاتب، إذ أن الهدوء يسود هناك كلياً في ساعات الصباح، ويحتفل المرء عند المساء.

ميندوزا: لنتحدث عن الجانب الحرفي للكتابة. هل يمكنك أن تقول لي من ساعدك في فترة تعليمك الطويلة؟

ماركيز: جدتي في المقام الأول. كانت تروي لي الخوارق من دون أن تحرك ساكناً، كأنها شاهدتها لتوّها. اكتشفت في هذه الأثناء أن هذا التصميم وغنى الصور هو تماماً ما كان يجعل قصصها معقولة إلى هذه الدرجة. ولدى كتابتي «مائة عام من العزلة» استخدمت طريقة جدّتي.

ميندوزا: هل أصبحت عن طريقها كاتباً؟

ماركيز: كلا، من خلال كافكا الذي روى قصصه بالألمانية على طريقة جدّتي نفسها. عندما قرأت «المسخ»، وكانت في السابعة عشرة من عمري، اهتديت إلى أن أصبح كاتباً. رأيت أنه كان ممكناً أن يفيق غريغور ساما ذات صباح ويجد نفسه متحولاً من فراشة إلى حشرة ضخمة، ففكرت: «لم أكن أدري أنه في وسع المرء أن يفعل ذلك، لكن عندما يكون مثل ذلك أمراً ممكناً، فإن الكتابة تهمّني إذن».

منيدوزا: ماذا لفت انتباهك بشكل خاص هنا؟ هل حرية المرء في ابتداع كل ما يشاء؟

ماركيز: أدركت فجأة أن ثمة في الأدب إمكانات أخرى أكثر من الإمكانات العقلانية والأكاديمية جداً التي كنت قد تعرفت إليها حتى ذلك الحين في الكتب المدرسية. كان الأمر كأنني تخلصت من حزام عفّة. لكنني اكتشفت مع الزمن أنه لا يمكن للمرء أن يبتدع ويتخيّل كل ما تنزع نفسه إليه، وإلاّ تعرض للكذب. والكذب في الأدب أمر أكثر فداحة من الكذب في الحياة الحقيقية. ثمة قوانين رغم ما يبدو من اعتباطية. صحيح أنه يمكن للمرء أن يخلع ورقة التوت عن العقلانية، ولكن فقط عندما لا يقع المرء في الفوضى واللاعقلانية التامة.

ميندوزا: في الخيال.

ماركيز: بلى، في الخيال.

ميندوزا: لماذا تستخف به؟

ماركيز: لأنني أؤمن بأن المخيلة هي مجرد أداة لإبراز الواقع، فالواقع هو في نهاية الأمر، ودوماً، مصدر الفن. والخيال، أي الاختلاق الظاهر على غرار والت ديزني، من دون أي استناد إلى الواقع، هو أبشع ما يوجد. ما زلت أذكر أنني أردت ذات مرة أن أكتب كتاباً يحوي قصصاً للأطفال وأرسلت لك كعيّنة قصة «بحر الزمن الضائع». وبصراحتك المعهودة كتبت لي أن القصة لم تعجبك وأن السبب يعود إلى قصورك: إذ لا تستطيع أن تفعل شيئاً بالخيال. لكن الاعتراض كان اعتراضاً قاتلاً بالنسبة إليّ، فالأطفال أيضاً لا يعجبهم الخيال. أما ما يلقى إعجابهم بالطبع فهو قدرة التخيل. والفرق بين الأمرين مثل الفرق بين إنسان ودمية تخرج الكلام من دون تحريك الفم.

ميندوزا: من ساعدك من الكتّاب الآخرين، باستثناء كافكا، لتعلم الحرفة وأفانينها؟

ماركيز: همنغواي.

ميندوزا: الذي لا تعتبره كاتباً روائياً كبيراً.

ماركيز: الذي لا أعتبره كاتباً روائياً كبيراً، بل قاصاً فذّاً. نصيحته أن القصة، مثل جبل جليد عائم، يجب أن تحمل أولاً الجزء الذي لا يرى، من التحريات والتأملات والمواد التي جمعها المرء، والتي لم تستخدم في القصة على نحو مباشر. بلى، يمكن للمرء أن يتعلم الكثير من همنغواي، حتى كيف تدور قطة حول الناصية.

ميندوزا: غرين أيضاً علّمك بعض الأمور. تحدثنا مرة عن ذلك.

ماركيز: بلى، إن غراهام غرين لم يعلّمني شيئاً أقل عن الطريقة والكيفية لفهم المنطقة المدارية. فما يستغرق جهداً كبيراً هو إبراز العناصر الأكثر أهمية، وخلق التركيب الشعري لمجال حيوي يعرفه المرء خير معرفة، فالمرء يعرف عنه كثيراً بحيث لا يعرف من أين عليه أن يبدأ، ويمكنه قول الكثير عنه بحيث أنه يعود لا يعرف في النهاية شيئاً. هذه كانت مشكلتي مع المنطقة المدارية. كنت قرأت، باهتمام تام، كريستوف كولومبس وبيغافيتا ومؤرخي بلدان الهند الغربية الذين كانوا كوّنوا لأنفسهم تصوراً أولياً. كذلك قرأت سالغاري وكونراد وكتّاب أميركا اللاتينية منذ بداية هذا القرن، هؤلاء الكتّاب الذين نظروا إلى المنطقة المدارية من وجهة نظر عصرية، كما قرأت كتّاباً آخرين كثيرين، فوجدت هوة سحيقة بين تصوراتهم والواقع. اندفع بعضهم بلا روية إلى سرد قصص تؤدي إلى تضييق زاوية الرؤية كلما كانت أكثر تفصيلاً. وكما نعرف، سقط آخرون ضحية المذبحة الخطابية. أما غراهام غرين فحلّ هذه المعضلة الأدبية بطريقة صائبة جداً، وذلك بنثره بعض العناصر القليلة، لكن هذه العناصر تقف بشكل ذاتي في سياق دقيق وواقعي جداً. بهذه الطريقة يمكن اختزال سرّ المنطقة المدارية بكامله في رائحة ثمرة فاسدة.

ميندوزا: هل تذكر أي درس مفيد آخر أعطي لك؟

ماركيز: إنه درس سمعته من خوان بوش في كاراكاس قبل نحو خمسة وعشرين عاماً. قال إن حرفة الكاتب والتقنية والوسائط البنيوية وحتى النجارة والصقل بمنتهى الدقة يجب أن يتعلمها المرء في شبابه. نحن الكتّاب مثل الببغاوات، لا نستطيع أن نتعلم الكلام عندما يتقدم بنا العمر.

ميندوزا: هل ساعدتك الصحافة في عملك الأدبي في جانب ما على نحو حاسم؟

ماركيز: بلى، لكن ليس كما يقال في العثور على لغة أكثر تأثيراً. دلّتني الصحافة على طرائق وسبل لمنح قصصي صدقية. فوضع ملاءات بيضاء على كتفي ريميديس الجميلة لكي تصع إلى السماء في «مائة عام من العزلة» أو إعطاء فنجان من الكاكاو، وليس من مشروب آخر، غلى الأب نيكانور راينا، قبل أن يرتفع مقدار عشرة سنتمترات عن الأرض، هي وسائل صحافية أو تعابير محددة ذات فائدة كبرى.

ميندوزا: كنت دوماً متحمساً للسينما. هل يمكن للكاتب أن يتعلم هناك شيئاً ما مفيداً؟

ماركيز: نعم، لكن ليس في وسعي أن أقول ماذا. في حالتي أنا، كانت السينما نفعاً وقيداً في الوقت نفسه. في أي حال، علمتني أن أرى من خلال صور متحركة. لكنني في الوقت نفسه أرى الآن في جميع كتبي قبل «مائة عام من العزلة» ميلاً مفرطاً إلى وصف الأشخاص والمشاهد وصفاً بصرياً وحتى ذكر زاوية النظر وأجزاء الصورة.

ميندوزا: هنا تفكر حتماً في «ليس لدى العقيد من يكتب له».

ماركيز: بلى، إنها رواية بأسلوب سيناريو. الأشخاص يتحركون فيها كأن كاميرا تتبعهم. أرى هذه الكاميرا عندما أقرأ الكتاب الآن مرة أخرى. أعتقد أن الحلول في الأدب هي غيرها في الفيلم.

ميندوزا: لِم ليس للحوار في كتبك سوى أهمية ضئيلة؟

ماركيز: لأن للحوار في اللغة الأسبانية وقعاً خاطئاً. قلت دائماً إن هناك فرقاً كبيراً في هذه اللغة بين الكلام المنطوق والكلام المكتوب. إن حواراً بالإسبانية جيداً في الحياة الحقيقية لا يكون بالضرورة جيداً في الرواية. لذا قليلاً ما أستخدمه.

ميندوزا: هل تعرف، قبل أن تكتب رواية، ماذا سيحدث لكل شخصية فيها؟

ماركيز: كلا، الخطوط العريضة فحسب. في سياق الكتاب تحدث أمور لا يمكن تصورها. إن التصور الذي كان لديّ عن العقيد أوريليانو بويندا هو أنه محارب قديم من حروبنا الأهلية يموت وهو يبول تحت شجرة.

ميندوزا: حدثتني زوجتك مرسيدس أنك عانيت كثيراً عندما مات.

ماركيز: بلى، كنت أعلم أنه لا بدّ لي يوماً من أن أدعه يموت. لكنني لم أجرؤ على ذلك. كان العقيد قد شاخ وراح يصنع سمكاته الذهبية، وذات أصيل فكرت: «الآن انتهى فعلاً!» واضطررت إلى قتله. وعندما أنهيت الفصل صعدت إلى مرسيدس في الطابق الثاني وأنا أرتعش. وإذ تطلعت إلى وجهي عرفت ماذا حدث، فقالت: «لقد مات العقيد الآن». ثم ذهبت أنا إلى الفراش وانتحبت طوال ساعتين.

ميندوزا: ما هو الإلهام بالنسبة إليك؟ هل ثمة شيء كهذا؟

ماركيز: أساء الرومانسيون إلى سمعة الكلمة. لا أفهم تحت هذه الكلمة حالة النعمة ولا وحياً إلهياً، إنما تصالحاً مع الموضوع، من خلال الإصرار والقدرة. عندما تريد أن تكتب شيئاً ينشأ بينك وبين الموضوع شيء ما مثل التوتر المتبادل. أنت تثير الموضوع، والموضوع يثيرك. ثم تأتي لحظة تنهار فيها كل العوائق وتتنحى جانباً سائر النزاعات وتحدث للمرء أمور لم يكن ليحلم بها: في هذه اللحظة لا شيء في الحياة أفضل من الكتابة. هذا ما أسميه إلهاماً.

ميندوزا: هل يحدث لك أحياناً، في سياق كتاب ما، أن تفقد هذه الحالة؟

ماركيز: بلى، ثم أعيد التفكير في كل شيء من البداية. هذه هي الأوقات التي أقوم فيها بإصلاح جميع الأقفال والأزرار في البيت، بالمفكّ، وبدهن الأبواب باللون الأخضر، إذ أن العمل اليدوي يساعد أحياناً في إزالة الخوف من الواقع.

ميندوزا: أين يمكن أن يكمن الخطأ؟

ماركيز: غالباً ما تكون معضلة بنيوية.

ميندوزا: هل يمكن لمثل هذه المعضلة أن تكون معضلة خطيرة؟

ماركيز: خطيرة إلى درجة أضطر معها إلى البدء من جديد في كل شيء. عام 1962 توقفت عن العمل في «خريف البطريرك» في المكسيك عندما كانت نحو ثلاثمائة صفحة جاهزة، وكل ما أنقذته منها كان اسم الشخصية الرئيسية. عام 1968 بدأ العمل من جديد في برشلونة، وعملت بها كثيراً طوال ستة أشهر، ثم توقفت لأن بعض النواحي الأخلاقية للشخصية الرئيسية، وهي لديكتاتور طاعن في السن، لم تكن واضحة تماماً. بعد نحو عامين اشتريت كتاباً عن الصيد في أفريقيا لأجل مقدمته التي كتبها همنغواي. لم تكن المقدمة تستحق الجهد، لكنني قرأت بعدها الفصل عن الفيلة فوجدت هنا الحلّ للرواية. إذ كان في الإمكان توضيح أخلاق الديكتاتور على نحو جيد بناء على بعض عادات الفيلة.

ميندوزا: هل لقيت مصاعب أخرى غير المصاعب التي كانت تتعلق ببنية الشخصية الرئيسية ونفسيتها؟

ماركيز: بلى، عند نقطة عرفت أمراً خطيراً: لم أستطع أن أجعل الطقس حاراً في مدينة الكاب. كان هذا أمراً سيئاً، فالمدينة كانت من مدن الكاريبي وكان لا بد من أن تكون شديدة الحرارة.

ميندوزا: كيف كان الحل؟

ماركيز: لم يخطر في بالي سوى أن أسافر مع أسرتي إلى الكاريبي. هناك رحت أتوه طوال عام تقريباً من دون أن أفعل شيئاً محدداً. وعندما عدت إلى برشلونة وطفقت أكتب في الكتاب، زرعت بضع نباتات ووضعت رائحة معينة، ثم تمكنت من جعل القارئ يشعر بحرارة المدينة. أنجزت الكتاب من دون عوائق أخرى.

ميندوزا: ماذا يحدث عندما تنتهي من كتابة كتاب؟

ماركيز: يزول اهتمامي إلى الأبد. يصبح «أسداً ميتاً»، في تعبير همنغواي.

ميندوزا: قلت إن كل رواية إنما هي نقل شعري للواقع. هل يمكنك إيضاح هذه الوصفة؟

ماركيز: بلى، أعتقد أن الرواية هي نقل للواقع مكتوب بالشيفرة نوع من الأحجية العالمية. إن الواقع في الرواية هو غير الواقع في الحياة، مع أنه يستند إليه مثلما تستند إليه الأحلام.

ميندوزا: إن معالجة الواقع في كتبك، خاصة في «مئة عام من العزلة» وفي «خريف البطريرك» دعيت «واقعية سحرية». ثمة انطباع لديّ بأن قراءك الأوروبيين غالباً ما يلاحظون سحر ما ترويه من دون أن يروا الواقع الذي يوحيه…

ماركيز: إن عقلانيتهم تمنعهم من رؤية أن الواقع لا يستوفي نفسه في أسعار البيض والبندورة. الحياة اليومية في أميركا اللاتينية تبرهن لنا أن الواقع مليء بأمور غير مألوفة. في هذا الصدد أعتمد دائماً على الاستشهاد بالمكتشف الأميركي الشمالي أوب دي غراف الذي قام في نهاية القرن الماضي برحلة لا تصدق عبر عالم الأمازون وشاهد هناك، بين ما شاهد، ساقية تجري فيها مياه تغلي، ومكاناً كانت نبرة الصوت البشري تثير فيه انهمارات مطر هائلة. في أقصى جنوب الأرجنتين اقتلعت رياح قطبية سيركاً بكامله جرفته معها. في اليوم التالي اصطاد الصيادون في شباكهم أسوداً وزرافات. في «مأتم الجدة الكبيرة» رويت قصة رحلة غير ممكنة ولا يمكن تصورها قام بها البابا إلى قرية كولومبية. وصفت الرئسي الذي استقبل البابا بأنه ممتلئ العود وذو صلعة، كي لا يبدو مشابهاً للرئيس الحاكم آنذاك الذي كان طويلاً ونحيلاً. وبعد أحد عشر عاماً من كتابة هذه القصة سافر البابا إلى كولومبيا، وكان الرئيس الذي استقبله ممتلئ العود وذا صلعة، مثلما كان في القصة. بعد نشر «مئة عام من العزلة» ظهر في مدينة بارانكيليا شاب اعترف بأن لديه ذنب خنزير. يكفي أن نفتح الصحف لنلاحظ أن أموراً غير مألوفة تقع في مجتمعاتنا يومياً. إنني أعرف أناساً من عامة الشعب قرأوا «مئة عام من العزلة» باهتمام كبير ومتعة، لكن من دون ان يصابوا بالدهشة قط، إذ أنني لا أروي لهم في نهاية الأمر شيئاً لا يماثل الحياة التي يعيشونها.

ميندوزا: إذن لكل ما تكتبه في كتبك نقطة انطلاق واقعية؟

ماركيز: لا تحوي رواياتي سطراً واحداً لا يستند إلى الواقع.

ميندوزا: هل أنت متأكد؟ في «مئة عام من العزلة» تحدث أمور غير مألوفة إلى حد ما. ريميديوس الجميلة تصعد إلى السماء. وفراشات صفراء تحوم فوق ماوريسيو بابيلونيا.

ماركيز: ذلك كله ينطلق من الواقع.

ميندوزا: مثلاً…

ماركيز: مثلاً ماوريسيو بابيلونيا. عندما كنت في الخامسة من عمري جاء ذات يوم عامل كهرباء إلى بيتنا في أراكاتاكا لكي يبدّل العدّادإني أذكر هذا كأنه حدث يوم أمس، فاللحام العريض الذي ثبّت نفسه فيه على العمود لئلا يقع، سحرني. جاء العامل عدة مرات. شاهدت ذات مرة كيف كانت جدّتي تحاول طرد فراشة بواسطة خرقة، وسمعتها تقول: «كلما جاء هذا الرجل إلى البيت كانت الفراشة الصفراء هنا». كانت تلك البذرة لأجل ماوريسيو بابيلونيا.

ميندوزا: وريميديوس الجميلة؟ لِمَ خطر لك أن ترسلها إلى السماء؟

ماركيز: كنت أنوي في البداية جعلها تختفي في ردهة البيت وهي تَحبِك مع ريبيكا وأمارانتا، لكن هذا الحل السينمائي بدا لي بعدئذٍ غير ملائم. وفي أي حال ظلت ريميديوس هنا ببساطة، حتى خطر لي جعلها تعرّج إلى السماء جسداً وروحاً. الحدث الحقيقي؟ امرأة، كانت حفيدتها هربت عند الفجر، قررت لإخفاء هذا الفرار ترويج إشاعة أن حفيدتها عرّجت إلى السماء.

ميندوزا: رويت ذات مرة في مكان ما أنه لم يكن سهلاً عليك تركها تطير.

ماركيز: كلا، لم ترتفع. وكنت يائساً لعدم إمكان تركها تصعد. وذات يوم دخلت فناء داري وأفكاري تدور حول هذه المعضلة. كان ثمة ريح قوية. وكانت امرأة زنجية جميلة تغسّل عادة غسيلها لدينا، تحاول تعليق الملاءات على الحبل. لكنها لم تنجح في ذلك، وعصفت الريح بالغسيل. وجاءني إشراق وفكرت: «هذا ما في الأمر». ريميديوس الجميلة تحتاج إلى ملاءات لكي تعرج إلى السماء. في هذه الحالة كانت الملاءات العنصر التي ساهم فيه الواقع. وعندما عدت إلى الآلة الكاتبة صعدت ريميديوس الجميلة، وصعدت، وصعدت من دون صعوبات. ولم تكن هناك قوة قادرة على إيقافها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى