أولى

لا يفلّ الحديد إلا الحديد

 سعادة مصطفى أرشيد _

 قبل حوالي السنتين أعلنت الإمارات انسحابها من تحالف الحرب على اليمن، ومع أن أحداً لم يصدق تماماً الإعلان الإماراتي، إلا إنه كان دليلاً على أن الإمارات يائسة تماماً من تحقيق أي انتصار، وأنها مدركة تمام الإدراك إلى أين تسير العمليات العسكرية وماذا ينتظرها عند خط النهاية، لذلك رأت أن ليس في صالحها أن تكون مهزومة، والفرار أسلم في هذه الحالة. كان ذلك الإعلان مرضياً لليمنيين وحلفائهم، وقد لاحظوا وعرفوا بمجسّاتهم الأمنية إحجام وتردد العمالقة وضعف إمداداتهم، وهم الميليشيا المدعومة من الإمارات.

 لكن وضع السعوديين المرهق في جبهة مأرب ذات الموقع الاستراتيجي والأهمية النفطية، اضطرهم لممارسة ضغط على الإمارات، مترافقاً مع رغبة أنجلو أميركية، جعل الإمارات تتورط من جديد بإرسال سفينة محمّلة بأسلحة ومعدات وذخائر ومركبات قتالية على درجة عالية من الكفاءة العسكرية. السفينة وقعت أسيرة وغنيمة ثمينة لصنعاء، ولم تدرك الإمارات أن صنعاء وحلفاءها لديهم القدرة التكنولوجية – الأمنية واليقظة الكافية لمعرفة أخبار السفينة ومسارها.

 مثّل كشف موضوع السفينة تأكيداً لظنون اليمن بأن الإمارات لم تخرج أصلاً من تحالف الحرب عليها، لذلك كان لا بد من الرد الرادع فلا يفل الحديد إلا الحديد, ولا تطفئ مياه حسن النية النار التي تصيب اليمن إذ لا يطفئها إلا النار المضادة، عبر الطائرات المسيّرة والصواريخ التي هزت بدويها الهدوء الذي تنعم به إمارة الرخاء والازدهار. وهي وإن أصابت معظم أهدافها، إلا أنها أصابت بشكل غير مباشر أهدافاً أخرى، ولكن بغير دويّ، أي بالمعنى الاستراتيجي والنفسي، قارعة أجراس الإنذار وموقعة حالة من الرعب في أوساط أعداء اليمن المباشرين كالسعودية، وأشباه المباشرين (كـ»إسرائيل») والولايات المتحدة وما ومَن يليهم من ملحقات، بعد الضربات اليمنية كما بعد الرد السعودي الإماراتي الذي طال صعدة وصنعاء والحديدة وأوقع مئات من المدنيين قتلى، الأمر الذي بدا جلياً في سرعة ردودهم وبياناتهم التي جاء بعضها محرجاً مرتبكاً وبعض آخر مصعداً ومورطاً وبعض ثالث متهافتاً لا يستحق التوقف عنده.

 على رأس المحرجين كانت واشنطن، والتي لا تستطيع قبول الردّ الإماراتي السعودي – ولو ظاهرياً، والذي استهدف البشر والشجر والحجر، اتصل وزير الخارجية بلنكن بنظيره السعودي مطالباً أطراف الحرب بالالتزام بأحكام القانون الدولي الإنساني، داعياً إلى ضرورة إنهاء الحرب وحل الخلاف بالوسائل السلمية، وأنهى مجاملاً ليقول إن بلاده ملتزمة بالدفاع عن السعودية, كما بدا الإحراج والارتباك الأميركي واضحاً أيضاً في تصريحات موظفي الإدارة الأميركية. فقد قال أحدهم لصحيفة (وال ستريت جورنال) wall street journal إن قرار صنعاء بضرب الإمارات كان قراراً يمنياً مستقلاً. وذهب آخرون لاتهام طهران بتحريض صنعاء والمشاركة في قرار الهجوم على الإمارات.

 رئيس الوزراء (الإسرائيلي) نفتالي بينيت اتصل بولي عهد الإمارات مصعداً ومديناً “العدوان” اليمني ومؤكداً حق الإمارات بضرب اليمن، مشدداً على دور إيران في هذا العدوان، كما أكد استعداد حكومته للوقوف مع الإمارات بالدبلوماسية والمعلومات الأمنية. طلبت الإمارات من حليفها الجديد صواريخ باتريوت وبناء قباب حديدية وهو الأمر الذي كان من الأولى أن تطلبه من واشنطن صاحبة القرار، ثم أنّ بناء القباب الحديدية مسألة تستغرق وقتاً لن تستطيع الإمارات انتظاره في حال كثفت صنعاء إطلاق صواريخها ومسيراتها، مع التذكير بأن لا منظومات الباتريوت ولا القبة الحديدية أثبتت فعالية في معركة سيف القدس التي جرت منذ أشهر بين الاحتلال والمقاومة في غزة.

 القصف اليمني لم يقتصر على الصواريخ والمسيّرات، وإنما ترافق مع قصف كلامي يوازي في ضرره على الإمارات القصف الأول. وهو ما ورد على لسان الناطق العسكري اليمني يحيى سريع الذي أكد أن الإمارات لم تعد كما تدّعي بأنها واحة الأمن والاستقرار والاستثمار المضمون، وإنما أصبحت بيئة غير آمنة لا للعيش ولا للاستثمار، وأنّه ينصح الشركات والمستثمرين بمغادرتها، وبما أن رأس المال جبان بطبعه فلا بد أن آذان المستثمرين قد التقطت كلام سريع بالجدية المطلوبة.

 الإمارات بدورها ومنذ اللحظة الأولى تصرّفت على مستويين سريعين ومستوى ثالث جدي وصامت، تمثل المستوى الأول بتصريحات المستشار السياسي لولي عهد الإمارات أنور قرقاش الذي هدّد وتوعّد، والمستوى الثاني بالغارات التي استهدفت اليمن بشكل عشوائي أصاب المدنيين ومثل مأزقاً إعلامياً لها، في حين قاد المسار الثالث مسؤول الأمن الشيخ طحنون بن زايد الذي أجرى اتصالاته السريعة مع طهران التي كان ضيفاً عليها مؤخراً، والتي افترض انه قد أقام علاقات دافئة معها سوف تتيح له الطلب المستجاب بأن تتدخل طهران لدى انصار الله وتدعوهم لوقف استهداف الإمارات. الرد الإيرانيّ كان أن عليه الاتصال وترتيب أموره مع صنعاء بشكل مباشر. فالقرار هناك وليس في طهران، وطهران منهمكة في محادثات النووي مع واشنطن ولا تريد أن تدخل ملفات تراها فرعية على الملف الرئيسي. الأمر الذي لو حصل لدخلت في مقايضات هي في غنى عنها، ولم يجد الشيخ طحنون على ما يبدو مَن يلجأ إليه إلا مسقط وسلطانها هيثم بن طارق، حيث تقوم عُمان بالوساطة بين الطرفين.

 لا يغيب عن البال أن مجاملة بلنكن لنظيره السعودي بقوله: إنّ واشنطن ملتزمة بالدفاع عن بلاده لا تعني على الإطلاق أنها مستعدة للقتال من أجلها، وإنما تعني بيعها مزيداً من السلاح بالسعر المرتفع الذي تحدده، أما اعتقاد الإمارات بأن حليفها الجديد (إسرائيل) سيقاتل معها فهو اعتقاد بائس وقصير النظر، فـ(إسرائيل) لا تقاتل إلا من أجل (إسرائيل).

 السعودية والإمارات قد وصلتا إلى أقصى مدى يمكن أن تصلا إليه مستنفذتين كامل أدواتهما من مال ونفوذ وقوة وسلاح وحقد ولم يعُد لديهما المزيد، فيما عليهما انتظار مزيد من المفاجآت اليمنية، وقد وصلتهما الهبة الثانية من الإعصار اليمني الاثنين الماضي.

 بعض مشيخات البترو دولار, ظنت في عقد الربيع الزائف، بأنها دول عظمى، ستفرض إرادتها، وللدقة إرادة مشغليها، وأنها بما تملك من وظيفة وفوائض مالية، وقنوات فضائية إخبارية، قادرة على أن تنفذ الأجندات المطلوبة منها بتوظيف معارضين لهم بسعر بخس، فدسّت أنفها ودولاراتها في السودان وليبيا والعراق وسورية، وظنت أن بمقدورها – لا إسقاط الأنظمة فحسب – وإنما الدول بعينها وتمزيقها وتمزيق مجتمعاتها، ولكنها في اليمن وقعت في شر أعمالها وستشرب من الكاس ذاتها التي سبق أن جرّعتها للآخرين؛ وقديماً قال أحد شعراء المعلقات:

 وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا وما هو عنها بالحديث المترجَم…

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير _ جنين _ فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى