مقالات وآراء

موقع لبنان الجديد في ظلّ التّحوّلات الكبرى..

} حسن الدّر

ثمّة فهم خاطئ لدى غالبيّة اللّبنانيين حول الأسباب الّتي مهّدت لصياغة اتّفاق الطّائف ووضعه موضع التّنفيذ عام 1991، وثمّة مجافاة للحقيقة حول ادّعاء أنّ اللّبنانيين اتّفقوا في ما بينهم على صيغة تضع نهاية للحرب المدمّرة الّتي دامت خمسة عشر عاماً.

والحقيقة أنّ التّحوّل الكبير الّذي حصل على مستوى العالم، بتفكّك الاتّحاد السّوفياتي، وتسيّد الولايات المتّحدة الأميركيّة إدارة العالم، كقطب واحد منتصر في حرب باردة دامت قرابة أربعين عاماً كان الأساس الّذي بُنيت عليه مداميك الاتّفاق.

كان الشّرق الأوسط محور اهتمام السّيّد الأبيض وهدفه الاستراتيجيّ الأوّل لأهمّيّة موقعه الجيوسياسيّ ووفرة ثرواته النّفطيّة، فعملت الولايات المتّحدة على تبريد ساحات التّوتّر والاقتتال في المنطقة تمهيداً لغزو العراق، وإنشاء القواعد العسكريّة بهدف تثبيت وجودها على المدى الطّويل، والتّحكّم المباشر بإدارة ثروات النّفط والغاز الهائلة، وقطع الطّريق على أيّ قوّة إقليميّة محتملة ترغب في أداء دور “مشاكس” للقوّة العظمى.

فكان اتّفاق الطّائف ترجمة عمليّة لرغبة الارادة الأميركيّة بوضع حدّ، ولو مبدئيّ، للحرب، في وقت كان فيه اللّبنانيّون قد انهكوا من التّقاتل في ما بينهم، والدّول العربيّة الدّاعمة للأطراف المتحاربة انصرفت إلى معالجة مشاكلها وترتيب أولويّاتها انسجاماً مع التّحوّل العالميّ الجديد، فيما استطاع الرّئيس حافظ الأسد تثبيت سورية كدولة محوريّة في المنطقة العربيّة، وأدار بحنكة وحكمة الصّراع مع العدوّ “الاسرائيليّ”، فاحتضن المقاومة الفلسطينيّة ودعم المقاومة اللّبنانيّة بتنسيق مدروس مع الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، وحفظ التّوازنات الدّاخليّة في لبنان حيث تمّ، بالتّوازي، إعادة إعمار لبنان وتحرير أراضيه عام 2000، وهذه نقطة أساسيّة تنقض كلّ الادّعاءات القائمة اليوم حول استحالة النّهوض الاقتصاديّ في ظلّ وجود سلاح المقاومة.

وبعد ثلاثين عاماً على الطّائف بدأ الحديث عن انتهاء مفاعليه وانتفاء صلاحيته، وهناك الكثير من التحليلات والتّكهّنات حول مستقبل لبنان ودوره بعد التّحوّلات الجديدة في المنطقة والعالم، وقبل الحديث عن الاحتمالات الممكنة لا بدّ من الأخذ بالاعتبار بعض المؤشّرات والوقائع المحلّيّة والاقليميّة والدّوليّة المؤثّرة في السّاحة اللّبنانيّة اليوم:

ـ أوّلاً: انتهى عصر الأحاديّة الأميركيّة وبدأ زمن الأقطاب المتعدّدة، وبالتّالي تعقّدت الحسابات باختلاف موازين القوى، فلم يعد الحلّ بيد طرف واحد.

ـ ثانياً: دخلت روسيا إلى سورية، ونجحت مع محور المقاومة في إفشال المخطّط الأميركيّ حول الشّرق الأوسط الجديد. ومعلوم تأثير إيران في السّاحة اللّبنانيّة وتأثير سورية أيضاً، فلا حلّ في لبنان قبل الحلّ في سورية.

ـ ثالثاً: يشكّل حزب الله قوّة إقليميّة مشهود لها عالميّاً، ولا يمكن تجاوز موقع الحزب وموقفه من أيّ حلّ أو تسوية مقبلة، وهذا عنصر محليّ كان مفقوداً أيّام الطّائف.

ـ رابعاً: هناك انقسام عربيّ، فلا وجود لمشروع واضح، وبالتّالي لا إمكانيّة لإحداث أيّ فرق في ظلّ هيمنة الولايات المتّحدة على القرار العربيّ عموماً والخليجيّ خصوصاً.

ـ خامساً وأخيراً: هناك اختلال في التّوازن الدّاخليّ، انعكس تخبّطاً داخل القوى السّياسيّة والطّائفيّة اللّبنانيّة الموالية للمشروع الأميركي ـ الخليجي مقابل قوّة وتماسك قوى المقاومة، رغم بعض التّباينات التّفصيليّة في إدارة ملفّات الشّأن الدّاخليّ.

والعامل الأكبر والأهمّ من كلّ ما سبق أنّ طرفيّ الصّراع المعنيين مباشرة بالأزمة الإقليميّة واللّبنانيّة يمتلكان أوراق قوّة مختلفة، فمحور المقاومة، وعلى رأسه إيران، له اليد الطّولى عسكريّاً وأمنيّاً، وللمحور الأميركي اليد الطّولى ماليّاً واقتصاديّاً.

ومن الطّبيعيّ أن نجد دول “محور المقاومة” تعاني من الانهيار الاقتصاديّ ومن التّراجع في كلّ الميادين المتعلّقة بتفوّق الجانب الأميركي فيها، ولكنّ الدّول تلك، تملك حرّيّة قرارها السّياسيّ والسّياديّ وترفض الانصياع للمشيئة الأميركيّة.

من هنا نجد بأنّ صياغة حلّ يرضي جميع الأطراف ليس بالأمر الهيّن، بل دونه عقبات كثيرة وتشابك مصالح وحسابات تبدأ من مضيق هرمز ولا تنتهي عند آخر نقطة احتكاك في غزّة داخل فلسطين المحتلّة.

فلا المقاومة جاهزة للتّخلّي عن القوّة الاستراتيجيّة الّتي راكمتها على مدى أربعين عاماً، ولا الأميركيّ مطمئنٌ إلى مصالحه ومصالح “إسرائيل” وباقي حلفائه بوجود ترسانة ضخمة من الصّواريخ الدّقيقة والبالستية البعيدة المدى.

وعليه، واهمٌ من يظنّ بأنّ مركزاً إداريّاً أو منصباً رسميّاً في نظام متداعٍ قد يكون بديلاً عن سلاح غيّر وجه المنطقة، وثبّت قواعد اشتباك يصعب تجاوزها، فضلاً عن التّخلّي عنها!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى