الأزمة… أزمة نظام تربوي
} انطون سلوان
عندما يحاول البعض مقاربة ما يمرّ به الكيان اللبناني في هذه الأيام، يصفون ما يجري بأنه أزمة حكم أو أزمة حكومات لم تستطع معالجة الأزمات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية التي تتخبّط فيها البلاد والتي وصلت الى درجة خطيرة وخطيرة جداً.
صحيح أنّ النظام الطائفي اللبناني هو نظام غير عادل، ونظام ولّاد للأزمات والحروب الداخلية والانقسامات ااإجتماعية، نظام لا بدّ من استبداله بنظام عادل ومتين، إلا أنّ اللوم الأساسي قد لا يقع بشكل مباشر على هذا النظام بل على ما أعطى هذا النظام قابلية الاستمرار على مدى عقود من الزمن.
وإذا ما طرحنا على أنفسنا السؤال التالي، ما هو السبب الرئيسي لكلّ هذه الأزمات؟ قد نجد بأنّ الأسباب عديدة ولكن بإمكاننا الجزم بأنّ أحد أهمّ هذه الأسباب هو أنّ النظام التربوي في الكيان اللبناني عجز عن بناء إنسان مسؤول بمواصفات مجتمعية صحيحة.
فما هي تحديداً المواصفات المجتمعية التي تقع على النظام التربوي المثالي مسؤولية زرعها في الخرّيجين من المدارس والجامعات والذين يضحون حجر الأساس في بناء المجتمع ومؤسساته المختلفة؟
إنّ النظام التربوي المثالي هو القادر على زرع فكرة وحدة المجتمع بين أبنائه وغرس مبدأ أنّ الاختلاف والتمايز بين أبناء المجتمع هو أمر طبيعي لا بل هو أمر ضروري من أجل التكامل بين العناصر المكونة لهذا المجتمع، وهي حتماً لا تشكل عنصر تصادم أو تنافر قد يصل الى درجة الاقتتال بين أبناء المجتمع الواحد. وأنّ المصلحة الكبرى التي تجمع الجميع لا بدّ أن توحّدهم وتدفعهم ليتكاتفوا ويتعاونوا ويوحّدوا الأهداف كما الجهود للوصول إليها وبأنهم جميعاً كمجموعة من البحّارة يبحرون في قارب واحد يجمعهم هدف المحافظة على هذا القارب ليصل بهم الى برّ الأمان، وأن يدركوا بأنّ أيّ خلل يصيب القارب قد يؤدّي الى غرقه وغرقهم جميعاً، وأنّ المعادلة البسيطة والمهمة التي يجب أن تتحوّل الى شعار أساسي هو «أننا قد نقف وننتصر إذا كنا معاً ولكننا حتماً سنسقط وننهزم اذا ما تفرّقنا وتبعثرنا».
في المناهج المدرسية الكثير من القصص والروايات التي تسرد وقائع وأحداثاً تاريخية وخرافية لا بدّ أن تتحوّل الى عبر ودروس في الحياة، منها ما يسرد كيف أنّ الطامعين باحتلال أو غزو بلد ما أو الخائفين من تطوّر بلد ما قد يلجأون الى أساليب بعيدة عن الاحتلال المباشر والهجوم العسكري، الى أساليب تحوّل الإنسان الى عدو لنفسه وعدو لمجتمعه من أجل فرض سيطرة هؤلاء الطامعين على هذه البلاد. هذه الدروس وهذه العبر يجب أن تساعد المتعلمين على إدراك كيف يفكر الأعداء وكيف يمكن مواجهتهم وذلك من أجل منعهم من التسلل الى داخل الداخل واستغلال بعض هذا الداخل ليكونوا أدوات لهم في استهداف وطنهم ومعظمهم لا يدرون ما يفعلون، كما تساعدهم من خلال زرع مبدأ مهمّ وأساسي فيهم «بأنّ حماية الأوطان من الغزوات والاحتلالات لا تنجز بالأمنيات والنوايا الطيبة بل بالعمل والفعل والقوة الرادعة لكلّ طامع وكل محتلّ».
النظام التربوي المثالي هو القادر أن يوضح للطلاب الفارق الكبير ما بين الدين والطائفية وبأنّ جوهر الدين هو عامل وحدة وتلاق، وأنّ القيم والمناقب التي يدعو إليها الدين برسالتيه، هي واحدة وذلك من خلال منهج موحد للمدارس كافة يتلاشى فيه مفهوم الـ “هُم” ليتجلى مفهوم الـ “نحن”، منهجاً يوحد بالمناقب والأخلاق والقيم أبناء المجتمع الواحد. النظام التربوي المثالي يجعل جميع الطلاب يدركون بأنّ الباطل لا يمسي حقاً إذا ما صدر عن شخص تجمعك به الطائفة ولا الحقّ يمسي باطلاً إذا ما صدر عن شخص من غير طائفتك، فالحق هو الحق والباطل هو الباطل كائناً من كان مصدرهما.
في النظام التربوي المثالي تتوحّد المفاهيم الأخلاقية لتمسي غير قابلة للجدل، فالكذب غير مبرّر في أيّ حال من الأحوال، والغش ليس أمراً ضرورياً للنجاح أو كسب المال، والسرقة ليست نوعاً من “الحذاقة”، واستباحة المال العام ليست أمراً طبيعياً، والاحتيال لا يمكن أن يكون شكلاً من أشكال الذكاء والعبقرية. النظام التربوي المثالي لا يدعو الى اعتماد مبدأ “الغاية تبرّر الوسيلة” بل مبدأ “إنّ الغايات النبيلة لا يمكن أن تتحقق إلا بوسائل أكثر نبلاً”.
المنهج التربوي المثالي يعطي أهمية كبيرة لبناء الفكر الاقتصادي الصحيح مشدّداً على أنّ الإنتاج هو الأساس المتين للإقتصاد وعلى ضرورة تعزيز كلّ القطاعات الإنتاجية والدفع بإتجاه الاكتفاء الذاتي وتجنب الاستدانة من الخارج والاعتماد على الغير والتركيز على المشاريع غير المنتجة وخوض المغامرات المالية التي غالباً ما تودي بإقتصاد البلاد الى الانهيار.
النظام التربوي المثالي يشدّد على أنّ الهدف من العمل السياسي هو تحقيق المصلحة العليا للمجتمع والوطن، هو خدمة الإنسان والمجتمع ووضع كلّ ما يتوفر من إمكانيات في خدمة الوطن وفي المقابل التشديد على عدم تحوّل العمل السياسي الى وسيلة لجني الثروات والتسلح بالسلطة والنفوذ، واستغلال المواقع والمناصب السياسية لتحقيق غايات خاصة بالأفراد والعائلات والطوائف والمذاهب والأحياء والشوراع وعلى أنّ اختيار الأفراد للمواقع المختلفة في المؤسسات العامة والخاصة يجب أن يكون نتيجة لمهاراتهم وقدراتهم وكفاءاتهم وليس نتيجة لإنماءاتهم الطائفية والمذهبية أو ولاءاتهم للأشخاص أصحاب النفوذ.
النظام التربوي المثالي يرفع من قدسية البيئة الطبيعية لدى المتعلم ويجعل المسّ بها أمراً خطيراً والحفاظ عليها أمراً ضرورياً ويدفع للعمل على أن تكون مياه الينابيع والأنهار والمياه الجوفية عذبة رقراقة خالية من أيّ ملوثات والهواء نقياً خالياً من أية شوائب والغابات والأشجار محمية من القطع والحرائق والعمل على أن لا يكون هناك كسارات تقتلع الجبال والوديان أو من يصطاد الأسماك والطيور والحيوانات بوسائل غير تقليدية وبطرق غير سليمة بيئياً. إنّ النظام التربوي المثالي يهدف الى بناء إنسان صديق للبيئة، مدافع عنها بكلّ جوارحه، وعامل من أجل الحفاظ على كلّ ما فيها لأنّ حياة الانسان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بسلامة النظم الايكولوجية للبيئة الطبيعة التي تمدّ جسمه وعقله وروحه بالغذاء.
النظام التربوي المثالي هو الذي يمدّ عقل المتعلم بالمعارف ويجعله قادراً على التحليل والتفكير والخلق والإبداع، ويبعده عم الببغائية والنسخ واللصق والتقليد الأعمى، وهو الذي يسلح الأخلاق بالمناقب ويجعلها قادرة على دفع الإنسان باتجاه الحق بعيداً عن الشر وعن المثالب، وهو الذي يجعل العلم نافعاً للمجتمع ومفيداً للإنسان.
لو كان النظام التربوي مثالياً لما كان الكيان اللبناني يعاني ما يعانيه من ويلات ومصائب ومصاعب وكوارث ولكانت حاله أفضل بكثير مما هي عليه الآن، لذلك أذا ما أردنا أن نصلح ما تهدّم، وأن نخطو خطوة في اتجاه بناء مجتمع سليم، يجب أن نعيد صياغة النظام التربوي ليكون بداية التغيير لبناء الإنسان المثالي القادر على تحمّل المسؤوليات الملقاة على عاتقه تجاه المجتمع وتجاه الوطن.