المياه السطحية لا تطاول القامات الشامخة…
سعد الله الخليل
حين اجتاحت بلدان العرب موجة الثورات الملوّنة آمن أصحاب شعارات الحرية والسيادة والاستقلال بنظرية الأواني المستطرقة التي لا يتوقف مفعولها عند حدود السوائل، بل يصل تأثيرها إلى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حينها توقع ناشطو الحرية نقاء المشاريع التي ترسم لبلدانهم، كنقاء مياه البحرين الأحمر والأبيض التي جمعتها خطة فرديناند دي لسبس اعتماداً على نظرية الأواني المستطرقة لتكريس تبعية العرب للغرب واستعمارهم بعد فشل نابليون في احتلال مصر بشكل مباشر وعودته إلى فرنسا بعد 13 عشر شهراَ من الحصار.
رحل نابليون بفشله ورحل فرديناند وما زال الغرب يستثمر نجاحاته في نقل ما يخططون عبر نظرية الأواني المستطرقة، فما زرعته واشنطن والغرب في بلاد الرافدين منذ عام 2003، يواصل انتشاره على مساحة الوطن العربي كانتشار النار في الهشيم، بأشكال وألوان مختلفة وجوهر واحد، يحرق كلّ ما يمت للقيم البشرية والإنسانية والحضارية بصلة، ولعل استهداف متحف باردو أكبر متاحف تونس بما يحمله من رسالة دموية جديدة في بلد نمت فيه الحركة السياحية والثقافية عبر عقود من الزمن والازدهار، ويعدّ موطناً من مواطن الحضارة كمحطة سبقتها محطات عدة كان آخرها استهداف متحف الموصل وتحطيم تماثيل أثرية معظمها من العصر الآشوري، وإلحاق أضرار بمواقع أثرية أخرى في محافظة نينوى. وفي سورية أيضاً لقيت عشرات المواقع الأثرية مصير نظيرتها العراقية من عمليات النهب والتدمير وسرقة كنوزها ضمن عمل ممنهج للتنظيمات الإرهابية، بدأته حركة طالبان الأفغانية عام 2000 بتفجير تمثالين ضخمين لبوذا محفورين في الصخر في منطقة باميان، وتدمير جماعة أنصار الدين في مالي أضرحة الأولياء في مدينة تمبكتو المدرجة على لائحة التراث العالمي، كلّ ذلك سبقهم إليه الحاكم الأميركي مدعي الديمقراطية والحفاظ على القيم الإنسانية، فقبل 12 عاماً نهبت القوات الأميركية المتحف الوطني في بغداد ومتحف الموصل الذي وصفه الخبير في علم المتاحف لدى منظمة اليونيسكو ستورات غيبسون «بجوهرة صغيرة بنيت على حدائق القصر السابق للملك فيصل»، ومن البوابة الأميركية أيضاً يعرض موقع «إيباي» الآثار السورية والعراقية للبيع لتجد طريقها إلى خزائن مشترين خليجين في استثمار مزدوج بالإنسان العراقي والسوري، فبعد تمويلهم قتل وتدمير حاضر البشر والحجر يموّلون شراء ماضيه.
هي إذا فرصة مواتية لقتل ماضي وتاريخ الشعوب ومحو هويتها تماماً كما مارست أفواج المهاجرين الأولى إلى الأراضي الأميركية موجة تطهير عرقي وثقافي للشعوب الأصلية لتوجد شعوباً وأوطاناً بلا تاريخ ولا هوية، على الشاكلة الأميركية والصهيونية، شعوب وبلدان سقف طموحها أن تلحق ركب الحضارة الغربية وتتقن فن الخنوع للسيادة الأميركية ممسوخة القرار لا تتذوّق طعم السيادة الوطنية، وربما من هذا المبدأ دعت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية جين بساكي الحكومة السورية إلى عدم اعتراض الطائرات الأميركية، من دون طيار في الأجواء السورية، بعد يوم من إسقاط المضادّات الجوية السورية الطائرة الأميركية MQ1، ومعها عجزت 50 نجمة زرقاء وثلاثة عشر خطاً أحمر من كسر مهابة، نجمتين خضراوين وخط أحمر واحد لا يسمح بالمسّ بالسيادة الوطنية.
بساكي المزهوّة في مبنى هاري ترومان مقر الخارجية الأميركية تجهل أنّ الشعب السوري، دفع دم أبنائه لمنع مسّ سيادة دمشق الوطنية في 29 أيار 1945، ومنع الاحتلال الفرنسي من اقتحام مجلس الشعب السوري قبل عامين من البدء ببناء مبنى الخارجية الأميركية.
لكلّ قاعدة شواذ واستثناء، فإذا كانت نظرية الأواني المستطرقة غمرت السهول المنخفضة بالمياه الأميركية، فإنّ الجبال الشامخة لا تطاولها المياه السطحية بل تغذي جذورها وتبقى قاماتها باسقة.
«توب نيوز»