تهويد ـ تدمير فلسطين وصهينتها
أحمد أشقر
كان مشروع «إسرائيل» اليهودية ـ الصهيونية التي تدمج بين الخرافة والأسطورة والدين والحداثة في استراتيجيتها وسياساتها المختلفة ولا يزال: تهويد فلسطين عبر تهويد المكان فيها، بما يدعم أقوالها بأنّ «اليهود مجموعة أصيلة» وليسوا مجموعات استعمارية طارئة على فلسطين وتاريخها. لذا عمدت على اختلاق المئات من «الأماكن المقدسة» في أنحاء مختلفة من فلسطين من أجل هذا الغرض. يعتبر هذا المشروع: «اختلاق الأماكن المقدسة»، مشروعاً مكمّلاً لمشروع علم الآثار القائل بأنّ فلسطين هي ميدان أحداث «التناخ». وكما أنّ بعض الآثاريين اليهود والأجانب بدأوا يعترفون بتسييس العلم، فإنّ بعض الباحثين في مشروع تهويد «الأماكن المقدسة اليهودية» بدأوا هم أيضاً يعترفون بأنّ جزءاً كبيراً من هذه الأماكن أصلها إسلامي.
الكتاب الذي بين أيدينا هامّ للغاية، لأنه يعتبر الأهمّ والأبرز في هذا الموضوع. فقد استخدم الباحث أدوات البحث العلمي كافة في الكشف والبحث والتوثيق والتقصّي بدقة متناهية، بالرغم من كون روايته صهيونية. واعتمد في بحثه على الأرشيفات الرسمية المدني منها والعسكري، والبلدية والشخصية، وما توفر من مصادر أخرى اختبرها على أرض الواقع.
يقول الباحث إنّ عملية التهويد «الإسرائيلية» الرسمية والفردية اعتمدت على أربعة عناصر: 1 ربط الحاضر «الإسرائيلي» البطولي بالماضي الخرافي والأسطوري اليهودي
2 تطوير الأماكن اليهودية «القليلة» التي كانت موجودة قبل النكبة وتحويلها إلى أماكن مقدسة ومزارات
3 تهويد الأماكن الإسلامية المقدسة التي كانت «أغلبية» قبل قرار التقسيم، فقامت بالسيطرة عليها وتهويدها
4 بعد أن سيطر المُستجلبون من اليهود العرب على مئات المزارات وقبور الأولياء في القرى المنكوبة وفقاً لقصص شعبية يهودية مختلفة ، أعطت المؤسسة «الإسرائيلية» الشرعية لها وطوّرتها. وتبنّى هذه العملية ونفذّها عدة أطراف وهي: وزارة الأديان، والجيش «الإسرائيلي» بعد الاحتلال الثاني عام 1967، ومؤسسات دينية مختلفة ومؤمنون عاديون من «المهاجرين»- كما يصفهم الكاتب- من اليهود العرب الذين تمّ استجلابهم من أوطانهم في خمسينات وستينات القرن الماضي، لأنهم كانوا بحاجة إلى مزارات قريبة من أماكن سكناهم، فقاموا بالسيطرة على المزارات الإسلامية في القرى العربية المنكوبة وحوّلوها إلى مزارات يهودية. فعلى سبيل المثال: سيطروا على مقام النبي يامن غربي قلقيلية وحوّلوه إلى قبر «بنيامين بن يعقوب» وفي الجنوب سيطروا على قبر الشيخ غريب وحوّلوه إلى «قبر شمشون» وحوّلوا مقام أبي هريرة في يُبنة على خط سير يافا- الرملة إلى مقام الـ»رابي جمليئل» ، والأمثلة بعد كثيرة.
عدا عن تحويل هذه المقامات من إسلامية إلى يهودية فقد أقدم اليهود على تدمير معماريتها. ومن يزور اليوم مقام «النبي يامن» يشهد على التدمير المعماري الذي قامت به مجموعة من اليهود المتديّنين حديثاً الذين استوطنوا في المقام. فقد أضافت على المقام الجميل والمتواضع ألواح الزينكو والتنك والشوادر ليتسعّ لأكبر عدد منهم. ويمكن رؤية أكوام من الغذاء والزبالة التي تنبعث منها الروائح الكريهة.
قبل عدة سنوات زرت مقام أبو السعيد الضرير في قرية عموقة المنكوبة بقضاء صفد. فقد حوّله اليهود إلى مقام «يونتان بن عوزئيل» من القرن الثاني الميلادي . وحاله هو الآخر أسوأ بكثير من حال مقام النبي يامن فقد قسّمه اليهود إلى قسم للرجال وآخر للنساء وفصلوا بينهما بمئات الأمتار المربعة من الصفيح والزينكو والتنك والشوادر حتى صار يبدو من بعيد مثل حيّ من أحياء الصفيح. وبما أن اليهود استحدثوا للمقام وظيفة المساعدة على الحمل والإنجاب فإنّ الزائر يرى آلاف قطع الملابس الداخلية التي تتركها اليهوديات معلقة على الأشجار المحيطة والسور الذي يفصل مكان النساء عن الرجال.
نستنج من البحث أنّ المؤسسة الصهيونية بمؤسساتها المختلفة اعتمدت خمسة محاور رئيسية حكمت عملية تهويد المكان الفلسطيني، كي يربط بين ماضي اليهود الديني وحاضرهم الاستعماري السياسي: ثلاثة بعد النكبة مباشرة ولا تزال مستمرة إلى الآن، واثنان بعد عدوان عام 1967 ولا تزال مستمرة إلى الآن:
الأول- تهويد خط سير «تل أبيب»- القدس: بدأ هذا المحور في العام 1950. واستهدف تهويد خط السير المذكور وفقاً لأساطير تناخية وتلمودية وخرافات شعبية أخرى و«بطولات» اليهود في حروب عدوانهم علينا قبل العام 1948. فقد اختار المختصون هذه المنطقة لعدة أسباب. يذكر الباحث سبباً واحداً منها، ألا وهو وجود الأماكن المقدسة اليهودية ضمن حدود الدولة الأردنية، أي القدس والضفة الغربية قبل الاحتلال الثاني عام 1967. لذا توجب إيجاد بديل قريب منها. أما السبب الثاني الذي لم يذكره الباحث فهو كون خطّ السير هذا يربط أكبر تجمّعين للمستعمرين الصهاينة في فلسطين «تل أبيب» والقدس. وكون خط السير هذا يربط كافة المستعمرات الصهيونية بـ«عاصمتهم» القدس. لذا لجأوا إلى زرع هذه الأماكن لتصبح جزءاً من التربية اليهودية الصهيونية للذين يسافرون يومياً- وهم بعشرات الآلاف- من بقية أرجاء الكيان إلى القدس.
الثاني- تهويد العديد من الأماكن المقدسة الإسلامية من الساحل إلى الجليل: حدث هذا بعد النكبة مباشرة، واستمر بكثافة حتى سبعينات القرن الماضي. أما القاعدة التي حكمت هذا النمط من التهويد فهي القاعدة الاجتماعية. فبعد أن سيطر المستجلبون من اليهود العرب على المزارات الإسلامية في القرى المنكوبة، قامت المؤسسة بتنظيمها وجعلها جزءاً من مسار السير الذي يسافر فيه المستعمرون الصهاينة أثناء إجازاتهم وأعيادهم إلى مستعمراتهم في الجليل وطبريا. أي أن البعد الاجتماعي السياحي الداخلي كان محورياً. وهو كذلك بعد تربوي يقول لليهود إن جذوركم أيضاً في الساحل والجليل. وتكثر المقامات الإسلامية التي تمّ تهويدها في هذه المنطقة.
مثلاً تمّ تحويل ضريح يعود إلى شخص مسنّ من قرية كفر عنان المنكوبة بالقرب من قرية المغار الحالية – قضاء طبريا إلى «قبر الرابي حلفتا وأبناءه». اختار اليهود جمع آل حلفتا في قبر واحد لأنّ عائلتهم تتناسل رجال دين يهود عديدين الجدّ، والابن والحفيد …وغيرهم .
وأقدم المستعمر اليهودي «تسفي كوهين» من منطرة «هوشعيا» التي أقيمت على أنقاض صفورية المنكوبة على دفن كلبته «لاسي» بالقرب من أحد الوديان التي تكثر في المنطقة. وبعد عدة سنوات فتح القبر وأعلنه «قبر الرابي آسي» وبدأت قطعان المؤمنين اليهود بزيارته رغم علمهم أنّ الكلبة لاسي مقبورة فيه!
الثالث- اختلاق العديد من النقاط المقدسة في الجنوب: اختلقت المؤسسة مزاراً في بئر السبع تربط نبيّهم «أبرهام» بالمدينة. وفي أقاصي الجنوب في أم الرشراش/ «إيلات» قامت المؤسسة بتنظيم احتفال سنوي لـ«ذكرى خروج بني إسرائيل من مصر».
الرابع- تهويد مدينة القدس: بدأت هذه الخطة مباشرة بعد احتلال ما تبقى من مدينة القدس عام 1967. فقامت السلطات المختصة بالسيطرة الكاملة على كلّ حجر بادّعاء أنه يهودي. وكذلك قامت بهدم حارة المغاربة وتجريفها وتهجير أهلها من أجل توسيع حارة اليهود. وكذلك سيطرت على مئات البيوت والمحال التجارية في المدينة. ولا تزال محاولات السيطرة على ساحة البراق ومحاولات هدم الأقصى جارية. ولم تسلم من هذه الخطة مدينة الخليل، فقد سيطرت- اقتسمت الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح وقبر «راحيل» في بيت لحم وما ترتب ويترتب عن عملية التهويد من تهجير السكان وتدمير المنازل والطبيعة. والحرب على تهويد كل من القدس والخليل مستمرة على مدار الساعة. وللأسف الشديد يُسجل اليهود النقاط تلو النقاط في حربهم هذه.
الخامس- تهويد المزارات الإسلامية في الضفة الغربية وسيناء والجولان: بعد الاحتلال مباشرة أعلن الجيش «الإسرائيلي» مسؤوليته الكاملة عن الأماكن المقدسة. فسيطر في البداية على الأماكن التي اعتقد أنها يهودية، مثل «قبر يوسيف» في نابلس. وأعْمَل البحث من أجل تهويد الأماكن المقدسة التي يُعتقد أنّ أصلها يهودي مثلاً: «اكتشفوا» في قرية عورتا في منطقة الخليل قبور كلّ من «إليعزر وإتمار أبنا أهارون وبنحاس بن إليعزر ومغارة السبعين شيخا»، والعديد من المزارات التي تحمل إشارة يهودية مثلاً تمّت السيطرة على قبر «النبي يهوشع» بحجة أنه «قبر يهوشع بن نون التناخي». وهكذا تمّت السيطرة على هذه المزارات وتهجير الأهالي الذين كانوا يسكنون قربها ومصادرة مئات آلاف الدونمات بحجة «تطويرها».
تكثر في الآونة الأخيرة الدراسات اليهودية التي تشير إلى أصل وعروبة المكان والفضاء في فلسطين، اعتقاداً من كًتّابها ومثقفيها بأنّ نقد أو نقض روايتهم الرسمية يجعلهم يسبغون الشرعية عليها ويعيدون استملاكها. خاصة أنّ العرب أكثر من عاجزين عن الدفاع عن فضائهم وإعادة إنتاجه معرفيّا.
تقديس أرض: الأماكن المقدسة اليهودية في دولة «إسرائيل»
دورون بار
إصدار: معهدي بن تسفي وبن غوريون لدراسة «إسرائيل» والصهيونية في جامعة بن غوريون في النقب، 2007.
274 صفحة بالعبرية
ashkar33 hotmail.com