الصين تفتّت «خاتم النار»

علوان نعيم أمين الدين

يطلق مصطلح «خاتم النار» على الحلقة الجغرافية من اليابسة التي يتوسطها المحيط الهادئ أيّ القارات الثلاث آسيا واستراليا وأميركا، وذلك نظراً إلى كثرة البراكين النشطة الموجودة ضمنها، كما تعتبر بقعة حبلى بالطبقات الجيولوجية التكتونية المتحركة المحدثة للزلازل المدمّرة، وأبرز مثال الزلازل هو الذي ضرب منشأة فوكوشيما في اليابان عام 2011، والذي كاد ان يحدث كارثة نووية عالمية إضافة إلى حذفه الكرة الأرضية 10 سنتيمترات عن مدارها جريدة الاتحاد الاماراتية 1/1/2012 .

وكما انّ تلك المنطقة متخمة بالعوامل الجغرافية الطبيعية، فهي ايضاً مثقلة بالتنافس الدولي المستقبلي والذي يمكن تسميته بـ«خاتم النار الجيوبوليتيكي»، اذ انّ العديد من الكتاب السياسيّين الدوليّين يعتبرون أنّ الحرب المقبلة ستكون على المحيط الهادئ، لجهة آسيا تحديداً، حيث انّ هناك العديد من العوامل التي تعزز هذه الفرضية.

في بداية مقالها «القرن الأميركي الباسيفيكي» المنشور في مجلة «فورين بوليسي» بتاريخ 11/10/2011، قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون أنّ على الولايات المتحدة، في العقد المقبل، ان تكون ذكية كفاية في ما يخصّ أمنها والطاقة، وموقعها القيادي، وضمان مصالحها، وقيمها المتقدّمة. واعتبرت كلينتون بأنّ المهمة المستقبلية الأسياسية سواء على الصعيد الديبلوماسي أو الاقتصادي أو الاستراتيجي وغيرها يكمن في المحيط الهادئ.

يخفي استراتيجيو الولايات المتحدة الأميركية «محاولة خنق الصين ومحاصرة نفوذها المتنامي، وذلك بالتغلغل داخل مجالها الحيوي، وتطويقها اقتصادياً وأمنياً بالأحلاف والمعاهدات، وعسكرياً بالقواعد في كلّ من اليابان وكوريا الجنوبية وأخرى في أستراليا. إذ بالإضافة إلى وجود 28 ألف جندي أميركي في كوريا الجنوبية و50 ألفاً في اليابان، تعمد الولايات المتحدة الأميركية، بموجب اتفاقية عسكرية جديدة موقّعة مع أستراليا، إلى إرسال المزيد من القوات إلى شمال أستراليا، ليبلغ العدد 2500 جندي أميركي بحلول عام 2016». نبيل نايلي، تثبيت دعائم قرن أميركا الباسيفيكي، موقع بانوراما الشرق الاوسط، 10/6/2012

بالإضافة إلى الدول المذكورة أعلاه، يسعى البنتاغون، منذ العام 2012، إلى توثيق العلاقات العسكرية مع دول في جنوب شرق آسيا، أهمّها الفيلبين وفيتنام وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا، لناحية «التأسيس لقواعد عسكرية أو إقامة اتفاقيات دفاعية أو التأسيس لتعاون أمني»، إضافة إلى القواعد الموجودة في المحيط الهادئ خصوصاً تلك في جزيرة غوام الاستراتيجية.

في المقابل، تسعى الصين إلى إنجاز القسم الثاني من خطة نهوضها بحلول عام 2020 والمرحلة الثالثة والأخيرة من 2020 الى 2050 بحسب البروفيسور الصيني تشينع بيجيان ، كما تستكمل معظم عناصر قوتها العسكرية بانتهائها من بناء سادس حاملة طائرات لديها.

تحاول الصين ان تنسج علاقات مع العديد من الدول الموجودة في جنوب شرق آسيا، تحديداً، من خلال علاقات الشراكة الاقتصادية التي تقيمها معها إنْ لجهة الاتفاقيات ام لجهة إقامة المناطق الاقتصادية الخالصة التي تعتبرها مصدراً لبناء الثقة بينهما من أجل تقوية نفوذها في المنطقة عبر «المواجهة الرخوة» لاستباق التهديد الأميركي المستقبلي وإفشاله.

انطلاقاً مما سبق، سنحصر الموضوع في التطرّق الى علاقات الصين مع أبرز الدول الموجودة ضمن هذه الحلقة.

1. العلاقات مع الفيليبين

شهدت العلاقات مع مانيلا تطوّراً كبيراً بدءاً من العام 1970، وتلاه التوقيع على الاتفاقيات التجارية في العام 1975، والتعاون التكنولوجي عام 1978، وزيارة القطع العسكرية عام 1999 وغيرها من الاتفاقيات الثنائية، خصوصاً أنّ الفيلبين هي عضو في منظمة آسيان، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تشهد العلاقات الفيليبنية – الأميركية تقلبات عديدة مقال بعنوان: قضايا جانبية تضع العلاقات الأميركية الفلبينية على المحك، رويترز، 23/5/2009 بالرغم من التعاون العسكري الكبير بين البلدين حوالي 5 مناورات عسكرية مشتركة سنوياً ، الأمر الذي يدفع الصين إلى الاندفاع أكثر لترميم العلاقات الثنائية بين البلدين بالرغم من وجود العديد من الخلافات بين البلدين.

2. العلاقات مع تايلاند

يعتبر مشروع قناة «أكر»، الذي سيربط بين المحيطين الهندي والهادئ، من أهمّ المشاريع التي يعود نفعها على كلا البلدين بشكل كبير حال البدء بتنفيذه. فهو مشروع حيوي يعطي الصين فرصة الإفلات من مضيق ملقا الاستراتيجي، ويوفر لتايلاند مكاسب مادية بحاجة إليها.

بعد تسلّم الجيش للسلطة في تايلاند، بدأ يوازن في علاقاته بين الصين والولايات المتحدة بعدما كان للأخيرة «حصة الأسد». وفي تصريح له، قال وزير الدفاع التايلاندي الجنرال براويت ونجسوان، بعد التوقيع على اتفاقيات أمنية مع بكين، بأنّ الصين وافقت على «مساعدة تايلاند في تعزيز حماية أراضيها وتقديم المشورة التكنولوجية لدعم الأمن القومي لتايلاند»، وأضاف: «لن تتدخل الصين في الشؤون السياسية لتايلاند لكنها ستقدّم الدعم السياسي وتساعد في المحافظة على العلاقات على كافة المستويات. هذه هي سياسة الصين». مقال بعنوان: تايلاند تعزز العلاقات العسكرية مع الصين وسط خلاف مع أميركا، رويترز، 6/3/2015 .

3. العلاقات مع أستراليا

وفقاً لمجلس مراجعة الاستثمارات الخارجية الاسترالي، يأتي الصينيون في المقدمة لجهة الاستثمار العقاري. ويرى بعض الكتاب أنّ«هناك عدداً من العوامل التي تدفع بالاستثمارات الصينية في العقارات الاسترالية، بما في ذلك مبادرات للحدّ من المضاربات العقارية في الصين، والتنويع بالنسبة إلى المستثمرين في العقارات الصينية وإمكانات الهجرة». موقع وولرد بروبرتي تشانل، 12/7/2013

لكن اللافت في الأمر أنّ الاستثمار العقاري الصيني يتركز في ولايات كوينز لاند، نيو ساوث ويلز، فكتوريا بالإضافة إلى أماكن أخرى متفرّقة والتي تطلّ جميعها على المحيط الهادئ لوقوعها في الساحل الشرقي لأستراليا، مما يعزز نظرية التمركز على سواحل محيط الباسيفيك.

أعلن رئيس الوزراء الأسترالي توني ابوت عن ضريبة جديدة لشراء عقارات في أستراليا من قبل أجانب. واتهم الأجانب، وكثيرون منهم صينيون، بالتسبّب في رفع الأسعار في أسواق العقارات في استراليا، وخصوصاً في سيدني وملبورن، وحرمان السكان المحليين من هذه العقارات. وقال ابوت في مؤتمر صحافي في سيدني انّ «حلم بعض الاستراليين هو امتلاك منزل ونريد لهذا الحلم ان يستمرّ». وأضاف: «انّ القواعد الحالية لا تسمح للأجانب سوى بشراء عقارات جديدة وتمنعهم من شراء عقارات مبنية من قبل»، لكنها لم تطبّق في السنوات الأخيرة. وتابع ابوت انه «في عهد الحكومة السابقة العماليون ولست سنوات لم ترفع أي دعوى قانونية ضدّ أجنبي اشترى منزلاً»، موضحاً «سنقوم بتطبيق هذه القواعد القديمة». وتقترح الحكومة فرض رسوم على طلبات كلّ الاستثمارات الأجنبية مثل النظام المطبّق في نيوزلندا. وقال ابوت إنّ الرسوم ستكون أقلّ من تلك المطبّقة في هونغ كونغ. موقع البيان الاقتصادي، 26/2/2015 .

4. العلاقات مع نيوزيلندا

في زيارة له الى نيوزيلندا 20/11/2014، أشار الرئيس الصيني شي جي بينغ إلى أنّ «العلاقات الصينية – النيوزيلندية تأتي في صدارة علاقات الصين مع الدول المتقدّمة وتضرب مثالاً جيداً على التفاعل بين الدول المختلفة في النظم السياسية والتاريخ والثقافة ومراحل التنمية»، وأضاف بينغ: «أنّ التعاون الثنائي يتمتع بالعديد من الفرص وبآفاق مشرقة»، مضيفاً أنه «يتطلع إلى العمل مع الجانب النيوزيلندي لرسم المسار المستقبلي للعلاقات الصينية – النيوزيلندية من أجل جلب المزيد من المنافع للشعبين». مقال بعنوان: الصين ونيوزيلندا تتفقان على تعميق العلاقات النموذجية، الصين العربية، 20/11/2014 .

وضمن تقرير إخباري، باعت نيوزيلندا جزيرتين إلى مطوّر صيني من أجل بناء منتجع فاخر. وبيعت جزيرتا باراريكاو آيلاند وكوبواهينجاهنجا، المعروفة أيضاً باسم جزيرة لي قبالة أوكلاند، بـ 5 .41 مليون دولار نيوزيلندي، 2 .30 مليون دولار أميركي، لشركة «رينبو هولدينغز نيوزيلندا» الصينية، حسبما أفادت صحيفة «نيوزيلاند هيرالد» نقلاً عن مكتب الاستثمار الخارجي. وتصل المساحة الإجمالية للجزيرتين إلى 27 هكتاراً وتقعان في ميناء مانوكاو في أوكلاند، على مقربة من مطار أوكلاند الدولي. وتعتزم الشركة القابضة بناء منتجع ستة نجوم في جزيرة باراريكاو، يتضمّن مطاعمَ ومنشآت ترفيهية وتجارية، وستكون جزيرة لي المجاورة محمية غابات. وأفاد التقرير بأنّ أعمال التطوير من المتوقع أن تتكلف 6 .130 مليون دولار نيوزيلندي. موقع المصري اليوم، 30/1/2015 .

5. العلاقات مع البيرو

حاول رئيس بيرو السابق آلان غارسيا أن يجعل من بلده المحور الأساسي للتجارة مع الصين، حيث أمل أن تستثمر بكين «ليس فقط موانئ البيرو بل أيضاً التاريخ المشترك». وتطمح الصين في استثمار المعادن المتوفرة بكثرة في البيرو، إذ قامت «شركتان صينيتان بالتعاقد على عدة مشاريع للتنقيب واستخراج المعادن بينما علقت أو ألغت، وكما يقول جون يولي الرئيس التنفيذي لمؤسسة الأنديز الاستشارية، بقية الدول عقودها» تايلر بريدجز، الانتشار الصيني في أميركا اللاتينية، صحيفة ميامي هيرالد، ترجمة جريدة الاتحاد الكردستانية، دون تاريخ .

من هنا، اعتبرت الاتفاقية بين مجموعة شركات صينية مع شركة غلينكور اكستراتا في بيرو من أبزر الصفقات الصينية في قطاع التعدين والتي تمّ من خلالها الاستحواذ على منجم من النحاس، مقابل ستة مليارات دولار. وقال إيفان غلاسنبرغ، الرئيس التنفيذي لشركة غلينكور، في بيان رسمي: «منذ استحواذنا على شركة اكستراتا، اتخذ فريقنا خطوات حاسمة للقضاء على المخاطر في منجم لاس بامباس، التي توّجت بهذا العرض المثير من التحالف الصيني». صحيفة الغد الأردنية، 24/4/2014

يقول دان أيركسون، الخبير في شؤون أميركا اللاتينية في مركز الحوار الأميركي الدولي، إنّ الصين «تبدو ذات جاذبية خاصة بين زعماء أميركا اللاتينية لأنها لا تطرح اسئلة حول السياسة الخارجية للدولة التي تتعامل معها في حيادية أيديولوجية بعكس الولايات المتحدة…» تايلر بريدجز، الانتشار الصيني في أميركا اللاتينية، المرجع السابق .

6. العلاقات مع نيكاراغوا

يبدو ان قناة نيكاراغوا من أبرز المشاريع الاستراتيجية التي حصلت عليها الصين. فهي استطاعت الإفلات من القبضة الأميركية بشكل أو بآخر على قناة بنما، والنفوذ الى المحيط الأطلسي من الخلف، ناهيك عن الفوائد الكبيرة التي ستجنيها نيكاراغوا عنذ البدء بتسيير المشروع.

وفي حال استطاعت بكين الاستحواذ على مشروع قناة برزخ «اكر» في تايلاند، تكون قد شطرت «خاتم النار» الى نصفين واستطاعت الإفلات، الى حدّ كبير، من التواجد الأميركي في المنطقة والهادف الى محاصرتها ومنع تمدّدها. بالإضافة إلى ما سبق، يعتبر الوجود الروسي على مضيق بيرينغ، على مدخل القطب الشمالي، عامل استقرار للصين، خصوصاً بعد التعاون والتنسيق الشديدين بينهما. بذلك، تكون الصين قد خرقت رأس «خاتم النار» من مكان ثالث عبر المحور الروسي، خصوصاً إذا ما تمّ اعتماده كطريق مواصلات الى أوروبا، لجهة الدول الاسكندنافية، عبر «الدرب البحري الشمالي» المسافة تقدر 3 آلاف ميل بحري حال انحسار الثلج في القطب.

من أجل استكمال هذا «التفتيت»، هنال عدد من المعوقات على الصين حلها:

– حلّ أزمة تايوان: لا يزال الغرب يستخدم تايوان كرأس حربة في صراعه مع الصين، من خلال إثارة النعرات ضدّ بكين، وتسليحها بين الفينة والأخرى، واعتبارها «العرب» التي ستخفف من «الحصان» الصيني. لهذا، على الصين تكثيف العمل والإسراع في طيّ هذه الصفحة

– تخفيف التوتر مع اليابان: الكلّ يعلم بمدى الخلافات التاريخية الموجودة بين الصين واليابان خصوصاً بعد غزو الأخيرة لها في بداية القرن العشرين. قد يكون من المفيد الجلوس على طاولة الحوار لإنهاء النزاعات الحدودية، على الأقلّ، من أجل تخفيف الضغط، لا سيما أنّ هناك تقارباً كبيراً بين اليابان وروسيا، والعمل جارٍ بينهما على توقيع اتفاقية سلام تنهي آثار الحرب العالمية الثانية. فلروسيا تأثير كبير في هذا المجال خصوصاً مع البدء بربط الاقتصاد الياباني بالغاز الروسي عبر جزيرة سخالين

– حلّ النزاعات الحدودية: وتحديداً البحرية منها والتي تتسبّب لها في العديد من المضايقات كتلك مع اليابان أو في بحر الصين الجنوبي مع كلّ من فيتنام والفيلبين وماليزيا وتايلاند وبروناي حول مجموعة أخرى من الجزر الصخرية تعرف باسم «سبراتلي»، وتدّعي السيادة عليها كلّ من هذه الدول، وهي جزر غير مأهولة، وغير صالحة للعمران، لكن جرفها القارّي غني بالنفط والغاز. مقال بعنوان: جزر التوتر: النزاع حول الحدود البحرية في شرق آسيا، السياسة الدولية، موقع الاهرام، 1/10/2012 .

– تطوّر القدرات العسكرية: من المهمّ ان تقوم الصين بتطمين دول الجوار من قدراتها العسكرية لمنع انسياقها الى المحور المقابل من خلال القيام بالعديد من الأمور، أبرزها المناورات والتدريبات المشتركة، الزيارات العسكرية الودّية للقطع والوحدات العسكرية، تبادل الخبرات، السعي إلى تشكيل قوات مشتركة وغيرها من الأمور التي تبعث الطمأنينة لدى الطرف الآخر

– تقسيم الثروات: الموجودة في المناطق البحرية المتنازع عليها بشكل يرضي الجميع. كما تستطيع بكين ان تبرم اتفاقيات مع هذه الدول لحساب شركاتها من أجل استثمار تلك الموارد الطبيعية مما يعود بالنفع على جميع الأطراف وينمّي العلاقات الاقتصادية المشتركة.

من خلال التجارب، استطاعت الصين ان تجتاز الكثير من العقبات عبر الاقتناع بمبدأ المشاركة مع الدول، والدخول الودّي الى القطاعات الاقتصادية وعلها تصبّ في مصلحة الطرفين، وبناء الثقة مع حكومات الدول التي تتعامل معها عبر سياسة عدم التدخل في شؤونها الداخلية. بمرور الوقت، تبقى الأمور مرشحة لإزالة هذه العقبات، أو التخفيف من آثارها، بغية تأمين بيئة هادئة للاستثمار وتبادل الثروات وتنمية العلاقات الودّية و«الحلم الصيني» بإعادة إحياء طريق الحرير مؤشر كبير على ذلك.

جزء من كتاب سيصدر قريباً

باحث في العلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى