أولى

نظريّة القوة في عالم لا يعترف بالضعف!

 د. محمد سيد أحمد

على الرغم من أنّ مفهوم القوة من المفاهيم المركزية في مجال العلوم الاجتماعية إلا أنه لم تفرد له نظريات محددة، ويعتبر مفهوم القوة من أهمّ المفاهيم في العلاقات الدولية، فهو من المفاهيم التي تثير كثيراً من الجدل بين المختصّين ورجال السياسة والباحثين، فالقوة هي جوهر التحليل السياسي، فالقوة والسياسة لا ينفصلان باعتبار القوة هي نقطة البداية لتحليل السياسة. فلكلّ دولة في المنظومة الدولية مجموعة من الأهداف تسعى إلى تحقيقها على المستوى الخارجي تتمثل أساساً في أمنها ورغبتها في السيطرة واكتساب النفوذ، وكذا رغبتها في فرض إرادتها على غيرها من الدول، حيث إنّ تحقيق الأهداف مرتبط بحجم القوة الموجودة لدى الدولة.

ويعرّف هانز مورغانتو Hans Morgenthau  القوة «بأنها القدرة التي يملكها الإنسان للتحكم في أفكار وسلوكيات الآخرين»، وتتعدّد زوايا النظر إلى المفهوم في العلاقات الدولية فتعرف بعناصرها أو بتأثيرها، لذلك يذهب بعض الدارسين إلى حصرها من خلال العناصر العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، بينما ينصرف آخرون إلى تحديدها بمعنى القدرة على توجيه سلوك الآخرين وتغييره تبعاً لأهداف الدولة ومصالحها. وقد تغيّر مفهوم القوة في العلاقات الدولية حيث تراجعت أهمية البعد العسكري فمن الناحية التقليدية كان اختبار القوة العظمى هو قدرتها على الحرب، كما يقول تايلور، أما اليوم فإنّ أساس القوة آخذ في الابتعاد عن التأكيد على القوة العسكرية، فمجتمعات ما بعد الثورة الصناعية راحت تركز على الرفاه الاجتماعي وليس على المجد وهي تكره ارتفاع عدد ضحاياها، إلا عندما يكون بقاؤها نفسه معرّضاً للخطر، وهو ما يوحي بأنّ القوة العسكرية لم تعد لها التأثير والدور نفسهما في عالم السياسة الدولية اليوم.

ومع بروز مفهوم القوة في العلاقات الدولية بدأت تتبلور حوله نظرية تعد اليوم من أبرز نظريات العلاقات الدولية، وقد تناولها الباحثون بالدراسة والتحليل، وذلك لأهميتها في التحليل السياسي سواء لسياسات الدول الداخلية أو الخارجية، ويمكن اختصار أهمية نظرية القوة في العلاقات الدولية من خلال ما يلي:

1 ـ الدور البارز الذي لعبته النظرية في صياغة مفاهيم جديدة في العلوم السياسية خاصة بتصنيف أنواع القوى.

2 ـ تزايد الاهتمام الدولي في موضوع القوة من حيث ازدياد قابلية الدول على امتلاك أنواع جديدة من القوى واستخدامها.

3 ـ أهمية القوة في تغيير شكل النظام الدولي وتحديد فاعلية الأقطاب المختلفة المشاركة فيه.

4 ـ تغيير شكل وعناصر قوة الدولة فبعدما كانت القوة العسكرية هي أساس التفوق الاستراتيجي، أصبحت الآن القوة العسكرية مضافة إليها أنواع أخرى كالقوة الاقتصادية والسياسية والتقنية والتكنولوجية.

وهذا التبلور لنظرية القوة في مجال العلاقات الدولية لم يمنع بروز مفهوم القوة في النظريات الاجتماعية الكلاسيكية، خاصة نظريات الصراع الاجتماعي والتي استمدّت أفكارها الرئيسية من النظرية الماركسية والتي تقول بأنّ الأفراد والجماعات (الطبقات الاجتماعية) داخل المجتمع لديهم كميات مختلفة من الموارد المادية وغير المادية (الأغنياء مقابل الفقراء) وأنّ الجماعات الأكثر قوة تستخدم قوتها ونفوذها من أجل استغلال الجماعات الأقلّ قوة، ويحدث هذا الاستغلال بطريقتين هما القوة الخشنة التي عادة ما تستخدمها الجيوش، والقوة الناعمة التي عادة ما يستخدمها السياسيون للتأثير على الجماهير عبر وسائل الإعلام.

ووفقاً لكارل ماركس هناك طبقتان اجتماعيتان رئيسيتان في جميع المجتمعات الطبقية وهما: الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة، حيث تستمدّ الطبقة الحاكمة قوتها من ملكيتها وسيطرتها على قوى الإنتاج، وتستغلّ الطبقة الحاكمة الطبقة المحكومة وتضطهدها، ونتيجة لذلك يظهر الصراع الطبقي داخل المجتمع نظراً لاختلاف المصالح بين الطبقتين، ويرى ماركس أنّ مَن يمتلك القوة الاقتصادية يستطيع أن يمتلك عناصر القوة الأخرى داخل المجتمع، السياسية والعسكرية والثقافية وحتى الدينية. ويعتقد ماركس أنّ المجتمع الأوروبي مرّ بعدة مراحل تاريخية على النحو التالي:

1 ـ المرحلة المشاعية البدائية وكان المجتمع خالياً من الطبقات ولم تكن الملكية الفردية قد ظهرت بعد، لذلك لم يكن هناك من يمتلك عناصر القوة.

2 ـ المرحلة العبودية وهي التي شهدت الصورة الأولية للملكية الفردية فتبلورت طبقتين هما: الأسياد والعبيد ونشأ بينهما الصراع نتيجة ممارسة القوة والسيطرة والهيمنة والاستغلال من قبل طبقة الأسياد على طبقة العبيد.

3 ـ المرحلة الإقطاعية وهي التي شهدت تبلور طبقتين هما الإقطاعيون والفلاحون ونشأ الصراع بينهما نتيجة ممارسة القوة والسيطرة والهيمنة والاستغلال من قبل طبقة الإقطاعيين على طبقة الفلاحين.

4 ـ المرحلة الرأسمالية وهي التي شهدت تبلور طبقتين هما البرجوازية والبروليتاريا ونشأ الصراع بينهما نتيجة ممارسة القوة والسيطرة والهيمنة والاستغلال من قبل الطبقة البرجوازية على طبقة البروليتاريا.

5 ـ المرحلة الاشتراكية أو الشيوعية وهي المرحلة التي كان يحلم بها ماركس ويرى أنها لا بدّ من إنهاء حالة الصراع الطبقي عبر إلغاء الطبقية ذاتها بحيث تسود في المجتمع طبقة واحدة وتمنح القوة لمؤسسات الدولة بعيداً عن الأفراد وهنا تغيب فكرة السيطرة والهيمنة والاستغلال.

ويلاحظ من الرؤى المختلفة لأنصار نظريات الصراع مركزية مفهوم القوة في عملية التحليل الاجتماعي وإن لم يتطوّر المفهوم ليصبح لديهم نظرية قائمة بذاتها، على عكس تبلور مفهوم القوة في العلاقات الدولية والذي سمح بتبلور نظرية حديثة للقوة هي ما تجعلنا قادرين على تفسير ما يحدث حولنا من تفاعلات على الساحة الدولية، وتجعلنا نؤكد أنّ الصراع الدولي المتبلور الآن بين ثلاثة أقطاب عالمية هي أميركا وروسيا والصين لن يتطوّر لمواجهات عسكرية في أوكرانيا مثلاً ولكنها هي حرب باردة جديدة لفرض القوة والنفوذ، وسوف ينعكس هذا الصراع الجديد على كافة الملفات الساخنة حول العالم ومن بينها الملفات العربية في (سورية والعراق واليمن ولبنان وليبيا والسودان) لذلك يجب أن نعي مصالحنا جيداً ونبحث عن مصادر القوة التي نمتلكها حتى يمكننا من عقد تحالفات دولية تحقق مصلحة شعوبنا، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى