أولى

أميركا تستجدي الحرب على أوكرانيا فكيف ستتصرف روسيا…؟

 العميد د. أمين محمد حطيط*

عندما انهار الاتحاد السوفياتي اعتقدت أميركا انّ العالم سيتحوّل برمته الى مناطق نفوذ أميركية تحكم السيطرة عليها بقواتها العسكرية وبالحلف الأطلسي الذي طورت تطبيقات معاهدة إنشائه من «حلف دفاعي عن أوروبا والوجود الأميركي فيها» الى حلف هجومي لحماية المصالح الغربية عامة والمصالح والسياسات الأميركية بشكل خاص، ورأت أميركا انّ إرساء نظام عالمي احادي القطبية بقيادتها هو أمر لا صعوبة فيه بعد ان حوّلت روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي الى دولة «جائعة» فاقدة الموقع والدور الدولي تكاد تشبه دولة من دول العالم الثالث، أما الصين فقد كانت برأي أميركا عبارة عن قوة اقتصادية تشوب بنيتها العيوب والثغرات التي تمنعها من المنافسة على قرار العالم (يكفي القول بحاجتها للطاقة)، فضلاً أنها هي بطبيعتها لا تملك هذا الطموح.

وبالفعل سارعت أميركا الى الانتشار العسكري في مناطق التأثير العالمي بشكل من شأنه ان يقيّد تنامي مخاطر يمكن ان تهدّد طموحها وتأتيها بشكل خاص من روسيا والصين وإيران، واعتمدت الى جانب الحروب الثلاثة (احتلال أفغانستان والعراق والانتشار في الخليج فضلاً عن حرب ٢٠٠٦ التي شنتها «إسرائيل» على المقاومة في لبنان بأوامر أميركية) اعتمدت الحرب الاقتصادية والإرهاب الاقتصادي الذي شنّته على أعدائها وخصومها بشكل لا أخلاقي ولا قانوني، واعتقدت بانها بالنمطين من الحروب (العسكرية والاقتصادية) ستروّض العالم وتحكم سيطرتها عليه.

بيد انّ خصوم او أعداء أميركا لم يستسلموا امامها، لا بل انّ بعضهم استمرّ بالمواجهة ومنعها من تحقيق المكاسب وبعضهم الآخر استعاد قرار المواجهة ورفض المساهمة بسكوته في تمكين أميركا من حكم العالم واستباحة حقوق الدول والشعوب.

ففي حين انّ ايران استمرّت في المواجهة عبر المقاومة ومحور المقاومة فإنّ سورية صمدت بوجه الحرب الكونية التي استهدفتها بقيادة أميركية، صموداً جعل روسيا وبعد ٤ سنوات من المراقبة والانتظار تكسر قيد الصمت وتتدخل ضدّ الإرهاب وتنصر الحكومة السورية وتعمل في الخندق الدفاعي ذاته الذي يعمل فيه الجيش العربي السوري وفصائل محور المقاومة، ما أدّى الى انكسار المشروع الأميركي في سورية والشرق الأوسط وعودة روسيا وبشكل واثق ثابت لاحتلال مقعدها في الصف الأول في المشهد الدولي، وتوجهت روسيا بعد ذلك الى الإعلان صراحة عن تفاهم استراتيجي مع الصين لمواجهة الأحادية القطبية ومنع تشكلها مهما كان الثمن.

لقد وجدت أميركا نفسها فجأة امام تكتل او مجموعة استراتيجية دولية تعمل رغم التباين الفكري والعقائدي بين أطرافها الثلاثة، تعمل على منع أميركا من تسيّد العالم، لا بل تسعى الى كفّ يدها عن التدخل في شؤون الغير عامة ودولها خاصة. كما انها وجدت انّ وسائل الإخضاع المعتمدة (الاحتلال والحرب الاقتصادية) لم تعد كافية او ناجعة في المواجهة فاتجهت كما يبدو الى نمط استراتيجي آخر بدأته في سورية باعتمادها «استراتيجية الفوضى ومنع استعادة الحياة الطبيعية»، وتريد ان تطبّقها الآن في أوكرانيا بوجه روسيا التي استعادت مواقعها الدولية وتندفع لبناء العلاقات والتفاهمات الاستراتيجية التي تعزز قوّتها في مواجهة أميركا، اما الصين فيبدو ورغم كلّ الإعلانات عن بدء الحصار او التطويق الأميركي لها، يبدو انّ أميركا جعلت مواجهة روسيا متقدمة عليها في لائحة الاولويات.

إذن الى جانب ما تنفذه في سورية والعراق ضدّ محور المقاومة، فإنّ أميركا فتحت ملف أوكرانيا وروجت لفكرة «الغزو الروسي» الوشيك لهذه الدولة التي كانت جزءاً هاماً من الاتحاد السوفياتي والتي باتت بعد تفكك الأخير الجارة الغربية الكبرى لروسيا الاتحادية. ولم تترك أميركا مناسبة او ظرفاً إلا واستغلته للقول بأنّ روسيا قرّرت وحشدت واستعدّت لتنفيذ الغزو، وانها أيّ أميركا لن تتدخل عسكرياً لمواجهة هذا الغزو بل انها ستواجهه بالعقوبات الاقتصادية ضدّ روسيا وبالدعم العسكري لحكومة كييف من غير ان يكون في هذا الدعم قوى عسكرية او مساهمة بالقتال. في موقف أقلّ ما يُقال فيه إنه تشجيع منها لروسيا على العمل العسكري.

وفي المقابل نجد روسيا تنفي ما تتهم به من استعداد عسكري لاجتياح أوكرانيا رغم انها حشدت على حدودها ما يصل الى ١٠٠ ألف جندي نشرتهم تحسّباً لأيّ طارئ، لكنها تؤكد على مشروعية مطالبها من أميركا والحلف الأطلسي وهي مطالب ذات بعد أمني يتصل بالأمن القومي الروسي وتنحصر في أمرين الأول يتمثل في رفض دخول أوكرانيا الى الحلف الأطلسي حتى لا يصبح الحلف عند حدودها مهدّداً لها، والثاني ضمان عدم انتشار الصواريخ البالستية والنووية في شرقي أوروبا بما يهدّد الامن القومي الروسي.

لقد رفضت أميركا ومعها الحلف الأطلسي المطالب الروسية، وعملت على تطويق روسيا من الغرب والجنوب بدءاً بأوكرانيا مروراً بأذربيجان وصولاً الى الجنوب في كازاخستان. توخت أميركا من هذا الطوق عزل روسيا وحرمانها من استثمار مكتسباتها من الحرب الكونية التي شنّت على سورية كما والتأثير على المشروع الصيني الاستراتيجي الكبير «الحزام والطريق».

في المقابل سارعت روسيا الى التدخل اللبق في أذربيجان وبشكل حاسم وسلس منع تحوّل الدولة تلك الى عدو يحاصرها، كما انها سارعت الى دعم كازاخستان عسكرياً وأجهضت «الثورة الأميركية الملوّنة» فيها، وبقي الملف الأوكراني من مجمل الطوق المأمول أميركياً.

هنا نجد انّ أميركا اتجهت لاعتماد استراتيجية جديدة في مواجهة روسيا تقود الى توريطها في احتلال أوكرانيا كلياً او جزئيا بما يذكر بالدور الأميركي في إغراء صدام حسين باحتلال الكويت، ثم تحوّل أوكرانيا الى مستنقع تغرق فيه روسيا كما غرق الاتحاد السوفياتي في أفغانستان غرقاً كان أحداً من الأسباب التي أدّت الى تحلله.

انّ «استدراج روسيا الى أوكرانيا بات اليوم حاجة استراتيجية أميركية، تؤمّن لأميركا جملة من الأهداف من غير ان تورّطها في نزاع عسكري مباشر مع روسيا، ولذلك هي أكدت من اللحظة الاولى انها ليست بصدد إرسال جنود الى أوكرانيا وليست بصدد إشراك الحلف الأطلسي بمهمة الدفاع عنها. ولذلك فانّ أميركا تتوخى ان يحقق لها انزلاق روسيا الى غزو روسيا ما يلي:

ـ إشغال روسيا في ميدان يقوم علي حدودها ما يفرض عليها تقييد حركتها في سورية والتراجع عن التمدد العسكري فيها وهذا ما يسهّل لأميركا حسب ظنها النجاح في الاستراتيجية الجديدة التي اطلقتها فيها كما اشرنا أعلاه.

ـ مواجهة روسية ـ أوروبية تقود الى إقفال السوق الأوروبية بوجه الغاز الروسي ما يؤذي الطرفين معاً روسياً بحرمانها من سوق رئيسي لنفطها وأوروبا لحرمانها من سلعة استراتيجية بنوعية وكلفة مناسبة ويدفع أوروبا الى الاعتماد اكثر على أميركا التي بدأت بتحضير المشهد من خلال الضغط على قطر لجعلها جاهزة لتوفير الغاز لأوروبا بدلا من الغاز الروسي.

ـ منع روسيا من استعادة مكانتها الدولية في الصف الأول عالمياً واغراقها في وحول تذكر بما غرق به الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وساهم في تفككه.

ـ التأثير على الجبهة الدولية الثلاثية المعادية لفكرة الأحادية القطبية والمتشكلة من الصين وروسيا وإيران، عبر إرهاق روسيا بملفات امنية ثقيلة.

لكلّ ذلك تسعى أميركا لاستدراج روسيا الى أوكرانيا بشتى السبل، وتروج للحرب عليها وتحدّد لها الساعة الصفر وتغري روسيا بالقيام بها وتستفزها بشتى الطرق سواء برفض المطالب الأمنية او بتكوين المجموعات القتالية الإرهابية تحضيراً لمواجهتها او مواقف أوكرانيا الرسمية المستفزة.

وفي المقابل نجد انّ روسيا تبدو على علم بالأهداف الأميركية لذلك تعمل بوعي وحذر ولن تقوم هي وبيديها بتأدية الخدمات المجانية لأميركا لتعوّض لها خسائرها وهزائمها في العالم خلال العقود الأخيرة ولن تهديها جائزة ترضية تعوّض لها خسارتها النظام الأحادي القطبية الذي بات جثة لن تعود الروح اليه مهما جهدت أميركا، ولذلك فهي تقدّر الموقف للقيام بسلوك يبعد عنها الأخطار ولا يورّطها في أفخاخ تنصب لها. ورئيسها بوتين يعرف أين يضع القدم الثابتة التي تحقق الغرض دونما انزلاق الى خسارة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى