الأزمة أوكرانية والأهداف أميركية…
} د. محمد سعد
تعتبر الأزمة الأوكرانية من أهمّ الأزمات المثارة على الساحة الدولية، نظراً لأهمية أوكرانيا الكبيرة لثلاث قوى كبرى هي روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، فهي بالنسبة للأولى تعتبر امتداداً تاريخياً وحضارياً وجغرافياً واستراتيجياً لها، وللثانية وسيلة لتقييد روسيا الاتحادية والحدّ من نفوذها العالمي، وللثالثة لا بدّ أن تكون جزء منها مستقرة وهادئة بسبب الجوار الجغرافي.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حظيت أوكرانيا بأهمية كبيرة من قبل الولايات المتحدة الأميركية وحليفتها الاستراتيجية بريطانيا ودلالة ذلك مقولة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل: «أنه إذا أرادت الدول الغربية أن تقضي على الاتحاد السوفياتي فعليها أن تفصل أوكرانيا عن روسيا».
وقد تزايدت أهمية أوكرانيا أميركياً أكثر فأكثر بعد نهاية الحرب الباردة باعتبارها الخاصرة الرخوة لروسيا وقلب الدفاع عنها، وهي من دول المحاور الاستراتيجية عند تقسيم أوراسيا كما يصفها مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي، لأنها تعتبر أمّ المدن الروسية، ومركزاً للحضارة الأرثوذكسية الشرقية، وهي أكثر دول الاتحاد السوفياتي السابق ارتباطاً بروسيا الاتحادية من النواحي الحضارية والتاريخية والثقافية والعرقية والدينية العميقة، فضلاً عن كونها تشكل الامتداد الحيوي لروسيا باتجاه أوروبا الشرقية، وبالتالي فإنّ خسارة أوكرانيا هي انتكاسة جيوبوليتيكية خطيرة للدولة الروسية الحديثة، وهذا ما أكده المفكر الروسي الشهير ألكسندر دوغين زعيم حركة الأوراسيين الجدد الذي اعتبر التحاق أوكرانيا بركاب الناتو بمثابة حرب جيوبوليتيكية على روسيا، فهي بنظره المشكلة الأكثر جدية وأهمية بالنسبة لموسكو، وبالتالي فأوكرانيا المعادية لروسيا تؤدّي دور العميل والخادم الجيوبوليتيكي للاستراتيجية الأطلسية، فهي برأيه بوعي منها أو بدون وعي تلعب دور النطاق الصحي للأطلسي لقوى البحر من أجل تطويق روسيا جيبوليتيكياً ومنعها من تحقيق مشروعها الأوراسي.
كما أنّ لروسيا ثلاث بوابات رئيسية تنفتح عبرها على العالم وهي وسط آسيا، القوقاز، وأوكرانيا، وتشكل أوكرانيا أخطرها على الإطلاق فعبر السهل الأوكراني مرت الجيوش الأوروبية الغازية لأراضي روسيا في حربين عالميتين، وعليه فإنّ تركيز الولايات المتحدة انصبّ على حرمان روسيا على واحدة من أهمّ الركائز الجيوسياسية، خاصة بعد أن خطت روسيا بقيادة الرئيس بوتين خطوات نوعية كبيرة في سياق مواجهة الهيمنة الأميركية، فأدخلت واشنطن كييف في دائرة الثورات الملوّنة فدعمت التيّار اليمينيّ المتطرف الذي يدعو إلى دمج أوكرانيا في البنى الغربية من خلال حلف شمال الأطلسي، هذا التيار الذي كان رأس حربتها في الانقلاب على نتائج الانتخابات التي أدّت إلى وصول فيكتور يانوكوفيتش المقرّب من روسيا، وتسارعت بعدها وقائع الأزمة الأوكرانية وصولاً إلى وقتنا الحالي.
أعادت الولايات المتحدة الأميركية ومعها بريطانيا توتير وتصعيد الأزمة الأوكرانية في الوقت الراهن عندما أعلنت كلّ منهما أنّ موسكو تحشد قواتها على حدود أوكرانيا تمهيداً لغزوها، وتهدف واشنطن من وراء ذلك إلى تحقيق ما يلي:
1 ـ واجه الرئيس بايدن وإدارته في عامه الأول في البيت الأبيض سلسلة من الإخفاقات الكبيرة، حيث من المتوقع أن يفقد الحزب الديمقراطي الأغلبية في الانتخابات النصفية للكونغرس التي ستجري في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، زد على ذلك الانقسام الحادّ في المجتمع الأميركي الذي تعززه المعارضة الشرسة من الحزب الجمهوري، وأخرى متنامية داخل الحزب الديمقراطي نفسه، لذا تعتقد إدارة بايدن المتعثرة أنّ استحضار العدو الخارجي وليس أيّ عدو أنه روسيا الاتحادية العدو التقليدي للولايات المتحدة وما يرتبط بهذا العدو في الذاكرة الأميركية، من بوابة تسعير الأزمة الاوكرانية، قد يعيد بعضاً من اللحمة إلى الداخل الأميركي المنقسم في مواجهة «الأخطار» التي تمثلها موسكو.
2 ـ تعكير العلاقات الروسية الأوروبية بشكل عام والعلاقات الروسية الألمانية والعلاقات الروسية الفرنسية بشكل خاص التي تنامت كثيراً في الآونة الأخيرة، خاصة أنها ارتكزت على بعد اقتصادي ـ طاقوي يتمثل في مشروع «نورد ستريم 2»، وبعد سياسي ويتمثل في الدور الأوروبي وتحديداً الفرنسي الألماني الفاعل في التوصل إلى اتقاقيتي «مينسك 1» و»مينسك 2» ومسار النورماندي، والتي لم ترضَ عنها واشنطن، لذا فإنّ صبّ الزيت الأميركي على نار الأزمة الأوكرانية يندرج في سياق سعي واشنطن لاستدراج الأوروبيين إلى تصعيد الموقف مع روسيا الاتحادية ومنعها من الولوج إلى فضائها الأوروبي، وإثارة صراع بين أوروبا وروسيا الاتحادية، وجعلهما تتنازعان اقتصادياً وجيوسياسياً بهدف استنزاف روسيا وإضعافها، وإنهاك أوروبا بدفعها نحو المزيد من توتير علاقاتها مع موسكو والضغط عليها. وهذه الحالة حسب القناعة الأميركية ستدفع أوروبا أكثر للارتماء بأحضان الولايات المتحدة طلباً للمزيد من الحماية الأميركية.
3 ـ توفر الأزمة الأوكرانية لواشنطن إنعاش حلف الناتو الذي أصيب بالموت السريري وفق تعبير الرئيس الفرنسي ماكرون، وإعادة الاعتبار له باعتباره المظلة العسكرية الأمنية الوحيدة للقارة الأوروبية، ما يؤدّي عملياً إلى وأد التوجهات والنوازع الاستقلالية التي تتمثل بالجيش الأوروبي الذي يحمل لواءه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ويتردّد صداه إيجاباً في برلين وعواصم أوروبية أخرى، وبمشروع البوصلة الاستراتيجية الذي أعدّه المنسق الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل والذي يضع أوروبا في موقع ندّي للولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية، ما يعني قيام قطب أوروبي يتمتع بالاستقلالية والتمايز عن واشنطن، فالأخيرة لا يمكنها تحمّل أعباء التكامل الأوروبي ونتائجه مهما كان الثمن.
كما أنّ الأزمة الأوكرانية توفر للولايات المتحدة أرضية صلبة يمكن البناء عليها للموافقة على المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف الناتو الذي تعذر الاتفاق عليه في العامين 2020 و 2021 بفعل التباينات بين أعضائه نتيجة الرؤية التي تضمّنها مشروع المفهوم الجديد الذي صاغته واشنطن الذي يقوم على سردية الحرب الباردة باعتبار أنّ العالم منقسم إلى معسكرين متواجهين، ما يعني تحويل أوروبا إلى ساحة صراع حرب باردة جديدة ستكون نتائجها كارثية عليها.
4 ـ تهدف الولايات المتحدة من خلال تصعيد الأزمة الأوكرانية إلى الإضرار بالعلاقات الاقتصادية بين كلّ روسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي التي تتنامى بشكل كبير على الرغم من العقوبات التي تفرضها واشنطن على موسكو، خاصة مع اختلال الميزان التجاري بين كلّ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لصالح الأخير، وفشل إدارة بايدن في وقف مشروع «نورد ستريم 2» الذي سيوفر بديلاً لروسيا عن أوكرانيا الذي يمرّ في أراضيها الغاز الروسي إلى أوروبا، هذا التصعيد الأميركي يندرج في سياق مسعى واشنطن لدفع الأوروبيين لشراء غازها المُسال رغم كلفته العالية، حيث كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» أنّ أكثر من 20 ناقلة غاز أبحرت من الولايات المتحدة إلى أوروبا، فضلاً عن أنّ اللقاء الذي جمع الرئيس بايدن بأمير قطر تميم بن حمد يدخل ضمن سياق سعي واشنطن لتضييق الخناق على موسكو من خلال إحلال الغاز القطري مكان الغاز الروسي، وإغراء الدوحة بالتخلي عن عقودها الطويلة الأجل لتوريد غازها إلى بكين لصالح الأوروبيين بإعلان واشنطن قطر حليف رئيسي من خارج حلف الناتو.
5 ـ الأزمة الأوكرانية توفر للولايات المتحدة الأميركية الفرصة المناسبة لاحتواء رقعة الشطرنج الأوراسية التي تؤشر إلى عودة روسيا الاتحادية للعب أدوار مهمة على الساحة الدولية، وتضييق الخناق عليها ومحاصرتها في مجالها الحيوي وجوارها القريب، وعزلها جغرافياً من خلال تشكيل حزام جيوبوليتيكي يمتدّ من دول البلطيق إلى رومانيا وبولندا غرباً، وهي دول أعضاء في حلف الناتو، إلى مولدافيا وأذربيجان وأوكرانيا وجورجيا، وهي دول أعضاء في منظمة غوام التي تأسّست عام 1997 بدعم ومساعدة أميركية.
6 ـ تعتقد الولايات المتحدة أنّ جعل روسيا دولة حبيسة ومقيّدة وبسيطة وأسيرة للعنة جغرافيتها سيسهل عليها حشد كلّ الإمكانيات لمواجهتها الكبرى ومنازلتها الطاحنة مع الصين، إذ لطالما اعتبرت الولايات المتحدة كلّ من روسيا والصين قوى تحريفية وتعديلية للنظام الدولي الذي تراه ينهار ويتفكك بفعل تآكل الهيمنة الأميركية عليه لصالح نظام في تطور التشكل ليس لواشنطن النفوذ المطلق عليه.
7 ـ ويبدو جلياً أيضاً أنّ الولايات المتحدة من خلال تصعيدها للأزمة الأوكرانية واستغلالها، تعمل على احتواء توسع الاتحاد الأوروبي من خلال ابتلاعه بتوسع حلف الأطلسي من خلال مخطط الإعداد الذي يمهّد لعضوية كلّ من أوكرانيا وجورجيا، مستغلة التباينات الداخلية بين الدول الأوروبية، وتنازع توجهاتها ما بين الأوربة والأطلسية.
تدرك روسيا الاتحادية أنّ نفوذ الولايات المتحدة في أوكرانيا هو نزيف مستمرّ لها، وهي تدرك أنّ الولايات المتحدة ابتعلت وعودها بعيد نهاية الحرب الباردة بعدم توسيع حلف الاطلسي ليشمل دول الكتلة الاشتراكية السابقة بعد موافقة موسكو على توحيد ألمانيا، ولتجاوزها لقرارات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في قمتي اسطنبول 1999، وأستانة 2010 في طلبهما الموجه إلى حلف الناتو بوقف تمدّده شرقاً، تدرك روسيا أنّ عليها مهمة احتواء تداعيات تفكك الاتحاد السوفياتي الذي يعتبر أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين وفق وصف الرئيس بوتين الذي أعلن أيضاً بعيد الانقلاب على نتائج الانتخابات الأوكرانية في العام 2014 بأنه لن يسمح بتحويل روسيا إلى دولة بلا ملامح يمكن التلاعب بها.
ثمة حقيقة ماثلة لا يمكن تجاوزها ولو طال الزمن، اختصرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقوله: «أينما توجهت أوكرانيا، سنلتقي في مكان ما».