حرب الغاز: مَن يخوضها على مَن؟
ناصر قنديل
– الأكيد بعد كل ما جرى في المسرح الأوكراني، هو أن الطابع الاقتصادي للحرب سيطغى على طابعها العسكري، بعدما صار محسوماً أنها حرب الغرب والشرق الفاصلة، التي لم تكن حرب سورية كافية لترسيم توازناتها، وتكفي العودة للكلام الأوروبي والأميركي المكرّر عن نية روسية لتغيير قواعد العلاقات الدولية، وكلام الرئيس الأميركي جو بايدن متسائلاً، “مَن يظن نفسه بوتين حتى يقرر شروط ولادة الدول وتقسيم الدول”، لنعرف انها حرب الإرادات حول هوية نظام عالمي جديد قيد التشكل بعد زوال نظام القطب الأميركي الواحد الذي ورث الثنائية الأميركية السوفياتية الحاكمة منذ الحرب العالمية الثانية، وعدم تبلور البديل، رغم علامات الصعود الروسيّ والصينيّ والصمود الإيرانيّ.
– الواضح أن واشنطن التي تدرك أن آسيا لم تعُد مسرحاً مناسباً لخوض المواجهة، على يقين بأن أوروبا لن تكون شريكاً يُعتمد عليه ما لم تكن ساحة المواجهة أوروبيّة، والشراكة الأوروبية نقطة ثقل حاسمة لتحسين شروط أميركا في أية مواجهة، كما تدرك واشنطن أن اختيار روسيا كعنوان للمواجهة هو أفضل الممكن قياساً بالصين وإيران. فالمواجهة مع الصين ستدور في منطقة بعيدة ولن تكون أوروبا البعيدة عن مسرح المواجهة والشريك التجاري الرئيسي للصين شريكاً فيها، والتداعيات والترددات للمواجهة على الاقتصاد الأميركي غير قابلة للحصر، عدا عن أن العنوان الوحيد المتاح هو مستقبل تايوان، وسيكون سهلاً على الصين حسمه سريعاً، وفرض أمر واقع يصعب تلافيه، أما المواجهة مع إيران فمكمن خطورتها أنها ستعرض وجود “إسرائيل” وليس أمنها فقط لتهديد وجودي، وتهدّد كيانات الخليج السياسية بالتصدع واقتصاداتها وموارد الطاقة التي توفرها، للمخاطر.
– روسيا هي القوة العسكرية الصاعدة في حلف الشرق الجديد، وهي القوة السياسية الصاعدة كشريك في السياسة الدولية، ولذلك فإن النجاح بتحجيم روسيا سيتكفل بتغيير المناخ الدولي ومعادلات النهوض الآسيوي. وبالمقابل روسيا نصف أوروبية ومفتاح مخاوف ومفاصل الأمن الأوروبي، ومن السهل استعادة ذاكرة الحرب الباردة والمخاوف الأوروبية من قيصر روسي يحلم بالإمبراطورية ويرث الاتحاد السوفياتي، وأوكرانيا هي نقطة القوة والضعف، حيث نزع مخالب أوكرانيا وأحلام نخبها اليمينية والفاشية، يفتح طريق التغيير في دول أوروبا الشرقية، وتثبيت تماسك أوكرانيا بوجه روسيا وتدعيمها يرسم خريطة الأمن الأوروبي من وراء جدار الحصار على روسيا. وقد قالت تجربة كازاخستان بعد أذربيجان وبعد الحرب الضروس لإسقاط سورية، ما يكفي لجهة لا جدوى العبث في المسرح الآسيويّ مع روسيا.
– من الواضح أن هذه المواجهة ستدور على مسارح متعددة، ذات أوزان نسبية، لكن مسرحها الرئيسي سيكون سوق الطاقة وبصورة خاصة سوق الغاز، وبعد فشل إدارة دونالد ترامب بتقديم الغاز الصخري منافساً لغاز الأنابيب الروسية، يأتي الضغط الأميركي على ألمانيا لإقفال الأنابيب الروسية كترجمة لقرار تحجيم روسيا وتدفيعها ثمن الطموح للعب دور دولي وازن، فألمانيا هي القوة الاقتصادية الأوروبية الوازنة، وهي السوق الأكثر استهلاكاً للغاز الروسي وخط النهاية ونقطة المصب للأنابيب الروسية، ويخاطر الغرب بقيادة أميركية بتفكيك عناصر الشراكة الاقتصادية بين الغرب والشرق على الفاصل في الحدود الروسية الأوكرانية، أملاً بفرض الخضوع الروسي، رهاناً على حرمان روسيا من الموارد ومن التعاملات المصرفية، ومن التقنيات والسلع الترفيهية الغربية، وأن الضغط الأمني الروسي يستهدف تغيير النخبة الحاكمة في كييف، لكن الضغط الاقتصادي الغربي سيفتح الباب لتغيير النخبة الحاكمة في موسكو، وبحجم أهمية المعركة وسقوف الرهانات العالية يجب الاستعداد لدفع الأثمان، ووفقاً لما قاله الرئيس بايدن فواشنطن تدرك أن هذا لن يتم بلا كلفة، والكلفة هي ما سيحدث في سوق الطاقة.
– روسيا لم تبدأ طلقتها الأولى الا بعدما استعدّت، خصوصاً بتثبيت التحالف الاستراتيجي مع الصين، المستورد الأول للنفط والغاز، الذي سيحرمه الغرب من موارد الطاقة لتأمين بديل خليجي لأوروبا في موردي النفط والغاز، وستضمن روسيا للصين بمعزل عن وسائل النقل، أن تحصل على النفط والغاز بالأسعار القديمة، بينما سيكون على أميركا وأوروبا شراء النفط والغاز بأسعار يقول الروس إنها ستزيد ارتفاعاتها عن الـ 100%، وإن الدمار الشامل سيصيب الاقتصاد الأوروبي، وأسواق الاستهلاك الأميركية ستصاب بالذعر، والشوارع ستمتلئ بالاحتجاجات، ولأن الحرب منذ الأزل، عضّ على الأصابع، فيكسبها الذين لديهم أهداف وجودية تستحق التضحية، وهذا ما يقوله الرئيس بوتين لشعبه وما لا يملك القدرة على قوله الرئيس بايدن للأميركيين، ولا يملك قادة أوروبا قول مثله لشعوبهم!
– مَن يملك الغاز يستطيع خوض حربه وليس مَن يستهلكه!