جمال عبد الناصر في قلوب السوريّين!
د. محمد سيد أحمد
ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن علاقة العشق المتبادل بين سورية والرئيس جمال عبد الناصر، فقد كانت سورية بالنسبة لعبد الناصر قلب العروبة النابض، وكان الرجل يدرك أهميتها بالنسبة للأمن القومي المصري والعربي، وعندما جاءت فرصة الوحدة وعلى الرغم من عدم نضجها إلا أنه لم يتردّد لحظة واحدة في عقدها وإعلانها، ولم يبنِ جمال عبد الناصر موقفه من سورية على أسس عاطفية، لكنه بنى هذا الموقف بعد قراءة واعية لحقائق التاريخ والجغرافيا والثقافة المشتركة بين البلدين، فأدرك بحسّه الوطني والقومي أننا بلد واحد وتاريخ واحد ومصير مشترك واحد، لذلك أعلن الجمهورية العربية المتحدة بإقليميها الشمالي والجنوبي، وبجيوشها الثلاثة الميدانية الجيش الأول بالإقليم الشمالي (سورية) والجيشين الثاني والثالث بالإقليم الجنوبي (مصر)، أملاً في أن تكون نواة حقيقية لوطن عربي موحد يستطيع أن يقف في مواجهة القوى الاستعمارية الكبرى في العالم.
وعلى الرغم من الفرحة العارمة لأبناء الإقليمين بهذه الوحدة إلا أنّ هذه الفرحة لم تدم طويلاً، فمنذ اللحظة الأولى بدأت عمليات التآمر على مشروع الوحدة، وبالطبع كانت القوى الاستعمارية القديمة (انجلترا وفرنسا) والقوى الاستعمارية الجديدة (الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني) في مقدمة من سعى إلى إجهاض المشروع الوليد وقامت باستخدام كلّ الوسائل غير المشروعة عبر أدواتها الخائنة والعميلة في داخل الإقليمين، إلى جانب استخدام الرجعية العربية الخائنة والعميلة تاريخياً والتي عملت بكلّ قوة ودفعت أموالاً طائلة للإطاحة بحلم جمال عبد الناصر، وعلى الرغم من نجاح مشروع التقسيم والتفتيت إلا أنّ حلم الوحدة المصرية ـ السورية ظل باقياً في عقل جمال عبد الناصر وقلبه حتى يوم وفاته، فرغم الانفصال ظلت مصر هي الجمهورية العربية المتحدة، وظلّ جيشها الأول هو الجيش العربي السوري، وظلّ علمها هو علم الوحدة ذو النجمتين الأولى لسورية الإقليم الشمالي والثانية لمصر الإقليم الجنوبي، وهو العلم الذي شيّع فيه جمال عبد الناصر يوم وفاته، لتشهد جنازته أنه ظلّ وفياً لسورية والوحدة حتى آخر لحظة في عمره.
وبرحيل جمال عبد الناصر جرت في النهر مياه كثيرة وتمكنت القوى الاستعمارية الجديدة من فرض مشروعها التقسيمي والتفتيتي على الجميع داخل الأمة العربية باستثناء سورية العربية التي أطلق عليها الرئيس جمال عبد الناصر قلب العروبة النابض، فبصعود الرئيس حافظ الأسد إلى سدة الحكم قرّر أن يسير على خطى جمال عبد الناصر ويستكمل مسيرته ويتبنّى حلمه في الوحدة العربية، فبقي علم الوحدة ذو النجمتين هو العلم السوري، وظلّ المكوّن العربي جزءاً لا يتجزأ من كلّ مؤسسات الدولة السورية. فالدولة هي الجمهورية العربية السورية، والشعب هو الشعب العربي السوري، والجيش هو الجيش العربي السوري، وهكذا كلّ مؤسسات الدولة، ولم يكتفِ الرئيس حافظ الأسد بالمسمّيات فقط بل ترجم ذلك واقعياً عبر تحدّيه ووقوفه في وجه المشروع الاستعماري الغربي وعدم الرضوخ له.
وفي الوقت الذي هرول الجميع لعقد اتفاقيات ومعاهدات سلام مذلّ مع العدو الصهيوني بداية بـ “كامب ديفيد” مروراً بـ “أوسلو” وصولاً إلى “وادي عربة”، بقي هو الوحيد الذي يرفع راية المقاومة في وجه العدو الصهيوني ويحتضن المقاومة العربية الفلسطينية واللبنانية التي كبّدت العدو خسائر باهظة وظلت خنجراً في خاصرته الرخوة طوال الوقت، وعندما اضطر للدخول في مفاوضات مع العدو الصهيوني أصرّ أن تكون مفاوضات عربية، ورغم الطعنات التي تلقاها من منظمة التحرير الفلسطينية بعقدها “أوسلو” منفردة، ومن الأردن بعقدها وادي عربة منفردة ظلّ يفاوض بشراسة لمدة عشر سنوات وعندما شعر بقرب أجله أوقف المفاوضات مع العدو الذي كان قد قدّم الكثير والكثير من التنازلات وقال قولته الشهيرة: “من الأفضل أن أورث شعبي قضية يناضل من أجلها على أن أورثه سلاماً مذلاً”، ورحل حافظ الأسد كما رحل جمال عبد الناصر والعروبة في عقله وقلبه.
وتأتي الذكرى الرابعة والستون للوحدة، وسورية التي وضعها جمال عبد الناصر في عقله وقلبه تخوض حرباً كونية استمرت 11 عاماً ولا تزال، مع القوى الاستعمارية نفسها صاحبة المشروع التقسيمي والتفتيتي التي تآمرت على حلمه الوحدوي العربي، وفي الوقت الذي وقف الجميع في العالم العربي متفرّجاً، قرّرت سورية قلب العروبة النابض أن تكون دائماً على العهد مع جمال عبد الناصر فوقفت منفردة تدافع ليس فقط عن ترابها الوطني ضدّ الهجمة البربرية الكونية والتي استخدمت أقذر الأدوات، بل عن شرف وكرامة الأمة العربية كلها، وخلال هذه الحرب الكاشفة كان أبناء جمال عبد الناصر المخلصون في مقدمة الصفوف دفاعاً عن سورية خط الدفاع الأول والأخير عن العروبة.
وخلال زياراتي المتكررة إلى سورية عبر سنوات الأزمة، شاهدت وسمعت الجميع سواء مواطنين أو مسؤولين يترحّمون على الزعيم جمال عبد الناصر الذي كانت سورية دائماً في عقله وقلبه، ولسان حال الجميع يقول لو كان جمال عبد الناصر موجوداً لما حاربت سورية منفردة، لكن عزاءهم الوحيد هو وجود الشرفاء من أبناء جمال عبد الناصر والمؤمنين بمشروعه الوحدوي العربي إلى جانب سورية، لذلك لا بدّ أن يعي كلّ من يرفع راية مشروع جمال عبد الناصر ويؤمن بثورته أنّ ناصريته ناقصة إن لم تكن سورية في عقله وقلبه، اللهم بلغت اللهم فاشهد.