قوة مصر من قوة قيادتها

مديحة عمارة

قبيل رحيل الفريق أول محمد فوزي، وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة، جمعتني وزوجي والفريق أول – رحمهما الله – جلسة خاصة، وكان الفريق أول في هذه الجلسة بعيداً عن طبيعته الصارمة فاتحاً قلبه، مسترسلاً ومسهباً في حديث الذكريات، متنقلاً بين أكثر من قصة وأكثر من واقعة تاريخية عاشها وشارك فيها… ومن أجمل وأهمّ ما ذكره الفريق أول قصة «حائط الصواريخ» وأسميها أنا «ملحمة حائط الصواريخ» بعدما سمعت تفاصيلها ودقائق أمورها من الفريق أول رحمه الله بشكل مباشر وبصوته الجهوري وانفعالات وجهه. وبعد سنوات من رحيله سمعتها من الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل متحدثاً عنها في البرنامج التلفزيوني «تجربة حياة» على شاشة «الجزيرة».

قصة «ملحمة حائط الصواريخ» لا بدّ من أن نتذكرها في هذه الفترة تحديداً، مرات ومرات، ولا بدّ من استعادة تفاصيلها ومثلما رواها الكبيران الفريق أول محمد فوزي والأستاذ هيكل… ورغم أنني كتبت عنها قبلاً، إلاّ أنني اتعمّد الآن إعادة الكتابة عنها وبتفاصيلها، ليس بتفاصيلها العسكرية فحسب، ولكن أيضاً ما فيها من تفاصيل تعكس قيماً ومعاني وطنية تستحق التوقف عندها مرات كثيرة وفي هذه الآونة تحديداً.

تفاصيل «ملحمة حائط الصواريخ» هي كالآتي:

مباشرة، بعد هزيمة يونيو 1967 بأقلّ من أسبوعين، بدأت مصر سلسلة حروب الاستنزاف ضدّ العدو الصهيوني، وحققت فيها مصر انتصارات متتالية، مكبّدة العدو خسائر فادحة.

وفي عامي 1969 و1970، ومع تواصل انتصارات مصر المتلاحقة على العدو الصهيوني، ومع تواصل هزائم العدو الصهيوني، بدأ العدو ردّاً وحشياً على هزائمه بشنّ غارات جوية متتالية، مركزاً غاراته في العمق على مواقع مدنية، مستخدماً طائرات الفانتوم والسكاي هوك الأميركية. وبلغت الطلعات الجوية للعدو في الأشهر الأربعة الأولى من عام 1970 8838 طلعة جوية على طول خط الجبهة والمواقع الحيوية، إضافة إلى 36 طلعة جوية على مواقع مدنية منها: ما عرف بمذبحة «بحر البقر» التي قصفت فيها طائرات العدو مدرسة بحر البقر الابتدائية بالصواريخ ودمّرتها تماماً، واستشهد فيها نحو أربعين طفلاً وأصيب 36 آخرون داخل صفوفهم. وقصف مصنع أبو زعبل في ساعة ذروة العمل واستشهاد 70 عاملاً وإصابة 69. وقصف محطة الرادار في مدينة نجع حمادي إلى غيره من المواقع المدنية… ثم قرّر الرئيس جمال عبد الناصر السفر إلى الاتحاد السوفياتي لمطالبة قادته بأسلحة ومعدات دفاع جوي صواريخ وطائرات ورادارات أكثر تقدماً مما كان متوافراً لدى مصر آنذاك.

زيارة سرية

في 20 يناير 1970 سافر الرئيس عبد الناصر إلى موسكو في زيارة سرية على متن طائرة روسية، مصطحباً معه القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية الفريق أول محمد فوزي، يرافقهما الأستاذ هيكل ووفد من القيادات العسكرية المصرية وقيادات الخبراء السوفيات الموجودين في مصر. وأسرد هنا عدداً من اللقطات عن هذه الزيارة:

اللقطة الأولى:

في الطائرة، وأثناء الرحلة، وردت أخبار الهجوم البحري والجوي لقوات العدو على جزيرة شدوان. هنا استشعر الفريق أول محمد فوزي خطورة الموقف، متحسّباً أنّ غزو الجزيرة قد يكون مقدمة لدخول قوات العدو مدينة الغردقة، وما يمثله هذا من تهديد قد يصل إلى السدّ العالي، وطلب إلى الرئيس عبد الناصر العودة إلى مصر لقيادة المعركة بنفسه، فماذا كان موقف رئيس مصر وماذا قال؟ قال جمال عبد الناصر: «أترك العسكريين في مصر يقودون معركتهم بأنفسهم، فعودتنا هكذا معناها أننا لا نثق في قدراتهم على مواجهة الموقف وهم سيواجهونه… والعدو لن يدخل مدينة الغردقة». وتحقق ما قاله الرئيس وتأكد أنّ ثقته في قيادات الجيش الجديدة في محلها. ولم تدخل قوات العدو الغردقة إذ أجبرتها سرية الصاعقة المصرية الموجودة في الجزيرة على الانسحاب، بعد قتال استمرّ ست ساعات وتكبّد فيه العدو خسائر بلغت 36 فرداً بين قتيل وجريح.

اللقطة الثانية:

في الطائرة، ورغم نزلة البرد التي كان مصاباً بها، جلس الرئيس عبد الناصر يكتب بخط يده مذكرة بلغت 26 صفحة، دوّن فيها النقاط كلها التي يريد بحثها مع القادة السوفيات، ثم جلس مع العسكريين يناقش معهم ما دونه.

اللقطة الثالثة:

وصلت الطائرة في العاشرة صباحاً وكانت ملامح التعب بادية على الرئيس عبد الناصر، فطلب الرئيس السوفياتي ليونيد بريجنيف إرجاء المباحثات حتى الغد ليأخذ ضيفه قسطاً من الراحة، لكن الرئيس عبد الناصر رفض التأجيل حتى لا تطول فترة الزيارة عن اليومين ضماناً للسرية.

اللقطة الرابعة:

كان الطلب الأساسي للرئيس عبد الناصر من القادة السوفيات هو الحصول على صواريخ سام 3، لعدم قدرة صواريخ سام 2 على مواجهة الطلعات الجوية المنخفضة لطائرات الفانتوم الأميركية التي يستخدمها العدو في غاراته على العمق المصري، سواء على مواقع حيوية كما في نجع حمادي أو على مواقع مدنية، واحتدم السجال ورأى القادة السوفيات صعوبة الطلب، فصواريخ سام 3 لم تُجرّب بعد وكيف ستستخدم في مصر بلا تدريب؟ ورغم أنّ الرئيس السوفياتي بريجنيف قال بوضوح «صديقنا ناصر يريد أن يحصل على كلّ ما يريده ونحن نريد أن نقدم له كل ما يحتاجه…». ورغم مناقشات طويلة أوضحت مدى صعوبة الاستجابة للمطلب، أهمّها ما ذكره القادة السوفيات حول أنّ الطواقم المصرية التي تعمل على «سام 2» لا يمكن أن تعمل على «سام 3» إلا بعد تدريب يستغرق ستة أشهر، ولا يمكن أن يتمّ التدريب إلا داخل الاتحاد السوفياتي، فماذا سيتمّ خلال الأشهر الستة هذه؟ وهل ستذهب الطواقم نفسها وتصبح «سام 2» بلا طواقم أم ستذهب طواقم جديدة بلا خبرة للتدريب؟ ورغم الصعوبات التي ذكروها ورغم أنهم أصحاب السلاح ونحن من يحتاج إلى السلاح إلاّ أنّ الرئيس عبد الناصر كان صلباً في موقفه، مُصرّاً على مطلبه، فقدّم اقتراحاً قال فيه: «على الجبهة نحن مستعدون لتحمّل الأخطار كافة وسنستخدم «سام 2»، لكن في العمق سوف نسحب الطواقم المصرية لتذهب للتدريب في الاتحاد السوفياتي وتحلّ مكانها طواقم سوفياتية تأتي إلى مصر لاستخدام صواريخ «سام 3» في الدفاع السلبي عن هجومات العدو على العمق لمدة ستة أشهر فقط، ثم تعود الطواقم المصرية المدرّبة ويعود السوفيات إلى روسيا». فأجاب القادة السوفيات بأنّ هذا معناه أنهم سيكونون مشتركين في الحرب، وأنّ هذا سيخلق أزمة من الدرجة الأولى ويكون هناك تعرّض لنشوب حرب نووية. فما كان موقف رئيس مصر وماذا قال للقادة السوفيات؟ قال عبدالناصر: «الاتحاد السوفياتي يتعرّض لهجوم فعلاً وأميركا آخذة في تنفيذ سياسة عدوانية فعلاً، وأنتم فقط تصدرون البيانات، وهذا يضرّ بكم، وإذا لم نستطع إصلاح موازين ما جرى في 5 حزيران/يونيو سنتضرّر، لكنكم سوف تضرّرون أنتم أيضاً ومباشرة… نحن لا نريد حرباً نووية، بل نريد تصاعداً محسوباً ولا نريد منكم إلاّ الدفاع السلبي عن مواقع مدنية ولمدة 6 شهور فحسب»، وازداد موقف رئيس مصر صلابة وتمسكاً بمطلبه قائلاً: «إذا كنتم تريدون أن يكون مستقبل العالم مستقبلاً أميركياً فنحن موافقون، وسوف نقول للعالم إنّ الاتحاد السوفياتي ترك المستقبل لأميركا، وسوف أترك الحكم لزميل آخر يستطيع التعامل والتفاهم مع أميركا»، وفي اليوم الثاني وافق القادة السوفيات على ما طالب به رئيس مصر، وسميت العملية بـ«القوقاز».

اللقطة الخامسة:

أثناء المباحثات تحدث أحد القادة العسكريين حول صعوبة إمداد مصر بصواريخ «سام 3»، مؤكداً عدم خروجها من الاتحاد السوفياتي إلى أيّ بلد آخر، حتى ولا دول حلف وارسو… عندئذ قال القائد العام للقوات المسلحة المصرية الفريق أول محمد فوزي: دول حلف وارسو لا تحارب. مصر هي التي تحارب. قال ذلك في حضور الرئيس عبد الناصر وفي مواجهة القادة السوفيات، ومن عرف الفريق أول فوزي عن قرب، يعرف كيف قالها، وبأي صوت جهوري، وبأي قدر من الصرامة.

اللقطة السادسة:

بعد انتهاء المباحثات ولحظة تأهّب الرئيس عبد الناصر لمغادرة القاعة تقدم منه الجنرال كاتشكي كبير الخبراء السوفيات في مصر محيياً إيّاه قائلاً: سيدي الرئيس لدي مشكلة كبيرة، فخبراؤنا العسكريون الموجودون في مصر يشعرون كأنهم جنود عصابات لأنكم تمنعونهم من ارتداء الزي العسكري السوفياتي، ويرتدون الـ»أوفر أول» من دون رتب، ويتساوى الجنرال والشاويش، كما أنّ الزي العسكرى السوفياتي يمثل بالنسبة إليهم قيمة وكرامة، فأرجو السماح لهم بارتدائه، فماذا كان موقف رئيس مصر وماذا قال؟ قال الرئيس عبدالناصر لكبير الخبراء السوفيات في مصر، وأمام رئيس الاتحاد السوفياتي وقيادات الجيش: «أنا مستعدّ أن ألبّي لك أي طلب إلاّ هذا، فارتداء ضباطكم الزي العسكري السوفياتي سوف يمثل للشعب المصري ما كان يمثله لهم وجود ضباط الجيش البريطاني بزيهم العسكري البريطاني وهم على أرض مصر قبل الثورة… ولا يمكنني البتة تلبية هذا الطلب».

هذه اللقطات التي أسردها الآن، والتي ظلت محفورة في ذاكرتي رغم مرور السنوات على معرفتي بها، أضعها هنا نموذجاً ومثالاً يؤكد معاني ومؤشرات كثيرة، أهمّها وفي مقدمها:

إنّ مصر تستطيع متى شاءت وأرادت وتمسّكت وأصرّت، أن تكون لها القيمة الكبيرة والمقام الأعظم والقدر العالي لدى دول العالم كله الصديق منها والعدو، وهذا يتمّ ببساطة عندما تكون لمصر القيادة الوطنية القوية الصلبة الشجاعة التي تدرك قيمة مصر ومقامها. عندما تكون لمصر القيادة التي تعرف أن تعكس كيف هي كرامة مصر وكرامة شعب مصر، القيادة التي تستطيع أن تعلن بقوة تامة كيف أنّ مصر عظيمة في مواقفها الصلبة الحرة، وفي قدرتها على فرض إرادتها بل وفي إملاء شروطها على الآخر، حتى وإن يكن صديقاً مسانداً لها في أزماتها وشدائدها. القيادة التي تستطيع أن تجبر الآخر على احترام سيادة مصر الدولة، والعمل على كسب صداقة مصر، بل وكسب رضاها، والتسليم لها بكلّ ما تطلبه وتريده وليس العكس.

هذه هي القيادة القوية الباسلة التي تليق بمصر، والتي نريدها لمصر. هذه هي القيادة التي يحق لها أن تكون هي الرمز لمصر والعنوان لمصر الكبيرة العظيمة، القائدة، الرائدة لمنطقتها العربية، والتي لن يرتضي شعب مصر قيادة سواها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى