أدرك فاغنر أنّ تيّار الحياة يتدفّق من داخله
جورج كعدي
يُلاحظ اختلافٌ بيّنٌ في نظرتي كلٍّ من فرويد ويونغ إلى الخيال الإبداعيّ، فالأوّل يميل إلى وضع الخيال على المستوى نفسه مع الحلم والهلوسة واللعب، لكونه شكلاً غير ناضج للأداء العقليّ، نوعاً من الهرب غير الواقعيّ. في حين أن يونغ تناول الخيال بجدّية وشجّع مرضاه على الإفادة منه لبلوغ الصحّة العقليّة والاتّزان النفسيّ، بل شجّعهم أيضاً على الاستغراق في التفكير الحالم الذي دعاه «الخيال الإيجابيّ». وحضّهم كذلك على ترك الأخيلة تتطوّر وتأخذ مجراها من دون أن يتدخّلوا فيه على نحو واعٍ، طالباً إليهم بعد ذلك تدوين أو رسم أو تصوير ما تخيّلوه، مهما بلغ شأنه.
تطوّر أسلوب يونغ العلاجيّ هذا حتّى أمسى مكمّلاً لتحليل الأحلام، والهدف من ممارسته تحقيق توازن بين الوعي واللاوعي. وتخصّص يونغ في علاج متوسّطي العمر وكان معظمهم على قدر من اليسر والنجاح في حياته، بيد أنّهم كانوا يكابدون إحساساً بالعبث وفقدان معنى الحياة. ويُرجع يونغ ذلك إلى أنّ الوعي المتطوّر كثيراً لدى هؤلاء أمعن في الابتعاد عن اللاوعي، أو ضلّوا، أفراداً، عن طريق تطوّر الوعي الداخليّ الصحيح وبات الفرد في حاجة إلى النظر نحو الداخل لو شاء استرداد التوازن والتقدّم مرّة أخرى. وأمسى تحليل هؤلاء المرضى بحثاً عن النفس الحقيقيّة، رحلة روحيّة غايتها النهائيّة، التي لا يبلغها المرء البتّة، تحقيق السلام الداخليّ والرضى والكمال. وبالتنبّه الشديد للاوعي مثلما يتبدّى في الحلم والخيال، يسع الفرد تبديل اتجاهه من موقف تهيمن فيه الأنا والإرادة، إلى موقف آخر يتبدّى له فيه أنّه موجّه بعامل محفّز على التكامل وليس من صنعه. أمّا مصطلح «عمليّة التفرّد» الذي أطلقه يونغ على تلك الرحلة الروحيّة فهو مأخوذ أيضاً عن شوبنهاور.
حالة الاستغراق في الحلم التي نصح يونغ لمرضاه باعتمادها وتنميتها هي تماماً الحالة العقلية نفسها التي تظهر فيها معظم الأفكار الجديدة للمبدعين. وثمّة حالات قليلة مدّت فيها الأحلام الفعليّة أولئك المبدعين بالإلهام. مثل على ذلك فكرة «دكتور جيكل ومستر هايد» التي خطرت للروائيّ والشاعر الإسكتلنديّ 1850 ـ 1894 روبرت لويس ستيفنسون في الحلم. كذلك أكّد الموسيقيّ تارتيني أنّ فكرة سوناتا «رعشة صوت الشيطان» وردت له في حلم رأى فيه الشيطان وسمعه عازفاً على الكمان. ومعظم الأفكار الجديدة تأتي البشريّ غالباً عندما يكون في حالة وسط بين النوم واليقظة، وينطبق الأمر نموذجياً على وصف فاغنر الحالة الذهنيّة التي كان فيها حين خطر له لحن افتتاحية «ذهب الراين»، وكان يعاني آنذاك مرض الدسنتاريا وكان مقيماً في فندق شبستيا، وكتب عن تلك التجربة: «بعد ليلة من الحمّى والأرق، حملت نفسي في النهار التالي على القيام بجولة طويلة في الريف القائم على التلّ والمغطّى بأشجار الصنوبر. بدا كل شيء موحشاً ومقفراً، ولم أستطع التفكير في ما ينبغي فعله هناك، ولدى عودتي بعد الظهر استلقيت من شدّة الإجهاد على أريكة خشنة، ورحت أنتظر لحظة النوم التي أتوق إليها. لكنّ النوم لم يأتِ فانتابتني حالة من النعاس شعرت فيها فجأة كأنّني أغوص في ماء سريع التدفّق. وتحوّل الصوت المندفع صاخباً في رأسي إلى صوت موسيقى هي نغمة من مقام E الكبير، وإن بدا من تواصله أنّه يضفي معنى لا نهائيّاً على العنصر الذي كنت أغوص فيه. واستيقظت من غفوتي في رعب مفاجئ وإحساس غامر بأنّ الأمواج تندفع عالياً فوق رأسي. وأدركت أنّ تيّار الحياة لم يكن يتدفّق من خارجي، بل من داخلي».
كان لمفهوم التفرّد لدى يونغ هدف لم يتحقّق قطّ. فلا أحد ينجح في تحقيق جميع إمكاناته، ولا أحد يبلغ الكمال. وعرّف يونغ الشخصيّة بأنّها «التحقيق الأسمى للخاصّية الفطريّة للكائن الحي». وتحقيق الدرجة الأرفع من التطوّر مهمّة تقتضي العمر كلّه ولا تكتمل البتّة، وهي الرحلة التي ينطلق فيها الإنسان مفعماً بالأمل، نحو غاية لا يبلغها على الإطلاق. وتلك تحديداً الطريقة التي يصف بها المبدعون أعمالهم، فلم يرضَ عبقريّ قطّ عمّا أنجز. يلهث دوماً خلف الأفضل، أو يحاول سبر أغوار جديدة، أو يبحث في شكل جديد مصلح لنقل رؤاه على نحو أشدّ تأثيراً… يتبع .