روسيا وأوكرانيا والحقبة الأميركية الأوروبية الجديدة
} د. حسن مرهج
من الواضح أنّ تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية، لن تفرز نتائج تعزز الدور الروسي في عموم دول الاتحاد السوفياتي السابق، بل ستتخطى نتائج تلك الأزمة، حدود تلك الدول، لتصل إلى القارة العجوز، وكذا الولايات المتحدة، وبات واضحاً أيضاً، أنّ روسيا واتخاذها لقرار شنّ الحرب على أوكرانيا، سيكون له مفرزات سياسية واقتصادية، لكن في العمق، فإنّ القرار الروسي له أهداف استراتيجية بعيدة المدى، تتعلق بأوروبا أولاً، ومن ثم الولايات المتحدة ثانياً، ضمن ذلك، فإنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حين اتخذ قرار الحرب، كان يدرك حجم التحديات التي ستواجه بلاده، لكن بذات الإطار، فإنّ شخصية بوتين الباردة، تؤسّس عميقاً لِما هو أبعد من أيّ تحديات استراتيجية تُحيط ببلاده، وهذا ما سيتكشف تباعاً خلال المرحلة المقبلة.
حقيقة الأمر، يبدو أنّ السيناريو الوحيد الذي وضعه فلاديمير بوتين، مؤطر بنتيجة واحدة، ترتكز على السيطرة على أوكرانيا؛ هذا السيناريو الذي تدركه جيداً الولايات المتحدة والغرب على السواء، يتمّ البناء عليه لوضع أسس ووقائع لما بعد سيطرة روسيا على أوكرانيا، وعليه، فإنّ الغرب عموماً، يدرك أنّ هناك حقبة جديدة في طور التبلور، وستنطوي عليها تحديات جديدة، تتمثل في إعادة التفكير في الأمن الأوروبي، وصياغة تفاهمات واتفاقيات جديدة مع موسكو، بغية عدم الانجرار إلى حرب أكبر مع روسيا، وبالتالي، سيتعيّن على جميع الأطراف، النظر في إمكانات موسكو النووية، وقدرتها على صوغ واقع جيواستراتيجي جديد، لتكون واشنطن وضمناً الدول الأوروبية، أمام واقع جديد، عنوانه العريض، توافقات الضرورة مع موسكو.
في المقابل، قد تجد الولايات المتحدة وحلفاؤها أنفسهم غير مستعدين تماماً للتفاهم مع موسكو، أو الذهاب بعيداً لجهة إنشاء نظام أمني أوروبي جديد نتيجة للأعمال العسكرية الروسية في أوكرانيا، لكن بالنسبة لروسيا، قد يتخذ النصر في أوكرانيا أشكالاً مختلفة، كما هو الحال في سورية، بمعنى أنه لا يجب أن يؤدّي النصر إلى تسوية مستدامة، بل يكفي في الوقت الحالي، تنصيب حكومة توالي موسكو في كييف، وبدلاً من ذلك، فإنّ هزيمة الجيش الأوكراني والتفاوض على استسلام أوكرانيا يمكن أن يحوّل أوكرانيا فعلياً إلى دولة فاشلة، ويمكن لروسيا أيضاً استخدام هجمات إلكترونية مدمّرة تصيب الغرب بالشلل، وبالتالي، إذا حققت روسيا أهدافها السياسية في أوكرانيا بالوسائل العسكرية، فلن تكون أوروبا كما كانت قبل الحرب، ولن يقتصر الأمر على تفوّق الولايات المتحدة في أوروبا؛ إنّ أيّ شعور بأنّ الاتحاد الأوروبي أو الناتو يمكن أن يضمن السلام في القارة سيكون بمثابة «قطعة أثرية لعصر ضائع»، وبدلاً من ذلك، يجب حصر الأمن في أوروبا في الدفاع عن الأعضاء الأساسيين في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، لكن في الأطر البعيدة، فإنّ سياق التطورات، لن يستقيم بشكل فعلي وواقعي، دون نسج تفاهمات واتفاقيات جديدة مع موسكو، في المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية.
في جانب آخر، ستكون الولايات المتحدة وأوروبا، في حالة حرب اقتصادية دائمة مع روسيا، وسيسعى الغرب من خلال تلك الحرب، إلى فرض عقوبات على موسكو، لكن لدى موسكو إجراءات ستُتيح لها، الالتفاف على العقوبات الأوروبية، وتوظيف تلك الإجراءات في الهجمات السيبرانية المدمّرة، وابتزاز أوروبا عبر الطاقة والغاز، وهنا لا يمكن للصين الحليف الاستراتيجي والاقتصادي القوي لروسبا، إلا أن تتدخل إلى جانب موسكو، وتعزيز العلاقات الاقتصادية معها، بل والانضمام لها في إجراءاتها الاقتصادية.
وبصرف النظر عن قدرة أوروبا والولايات المتحدة، على فرض عقوبات على موسكو، إلا أنّ الردّ الروسي سيكون قاسياً ومدمّراً، ورداً على واشنطن والغرب، فإنّ روسيا ستنتقم، في المجال السيبراني وكذلك في قطاع الطاقة، وستحدّ موسكو من الوصول إلى السلع الحيوية مثل التيتانيوم، التي تعتبر روسيا ثاني أكبر مصدر لها في العالم، الأمر الذي يشير صراحة، إلى وقوع حرب استنزاف ستمتحن واشنطن والغرب على السواء، وستكون روسيا قاسية في هذا الاطار، لجهة ثني الدول الأوروبية، عن الدخول في صراع اقتصادي مع موسكو، من خلال ربط تخفيف التوتر بالمصالح الذاتية لهذه الدول، وبالتالي تقويض الإجماع في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، حيال شن خرب اقتصادية ضدّ موسكو.
ختاماً، على واشنطن والغرب، ألا يقللا من شأن موسكو، ويجب على الدول المناهضة لروسيا، ألا تعتمد على الروايات المستوحاة من التمني، فانتصار روسيا في أوكرانيا ليس خيالاً علمياً، بل هو واقع آتٍ لا محال، وعلى الولايات المتحدة والغرب، الاستعداد للدخول في حقبة جديدة، عنوانها موسكو والخرائط الجديدة في الغرب، وكذا في الشرق الأوسط…