أولى

الغرب بين الربح التكتيكي والخسارة الاستراتيجية

} زياد حافظ*

لا يمكننا فهم الأحداث الدموية في أوكرانيا إنْ لم نتوقف عند أسبابها وبطبيعة الحال عند تداعياتها. وهذا هو ما سنحاول مقاربته في عرضنا لأنّ نتائج ما حصل لن يكون منحصراً بالأطراف المتصارعة ولكن سيؤثّر بشكل واضح على موازين القوّة في العالم، وعلى ملامح النظام العالمي الجديد الذي سيلد من رحم المعارك القائمة على أرض أوكرانيا (وهي بالمناسبة استكمال للمعارك التي بدأت في المشرق العربي وشمال أفريقيا والجزيرة العربية). كما أنها ستؤثّر على مسار الحرب الكونية على سورية والصراع مع الكيان الصهيوني وبطبيعة الحال على الأوضاع في لبنان ومستقبله.

إنّ ما يجري في أوكرانيا ليست حرباً بالمعنى المألوف وإن كان طابعها عسكري. فهي أقرب لعملية عسكرية واسعة لتحقيق أهداف محدّدة وليس لتغيير معالم جغرافية ولا لتغيير نظام حكم، وإنْ كانت نتيجتها ستؤدّي إلى ذلك، ولا لسحق أو تدمير بنى تحتية وجيوش ومجتمع كما يفعل الكيان الصهيوني مع فلسطين وسورية ولبنان. ولفهم ما يجري يجب أن نقارب ولو بشكل سريع أسباب العملية العسكرية الواسعة.

منطلق المقاربة هو أن العملية العسكرية التي تقوم بها روسيا هي خطوة دفاعية وليست هجومية رغم الظاهرة لاحتلال بلد مجاور. والخطوة العسكرية أتت في سياق طويل بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتولي الحلف الأطلسي خلال التسعينات من القرن الماضي التوسّع شرقاً رغم الوعود «الشفهية» ولكن الموثّقة وفقاً لشهود أعيان من ان الأطلسي لن يتقدّم «اينشا» أي 2،54 سنتيمتر تجاه الشرق. فوجود قواعد عسكرية ومنصّات صاروخية في دول كانت ضمن حلف وارسو أصبح أمراً يهدّد مباشرة الأمن القومي الروسي. حذّر الرئيس الروسي تكراراً ومراراً منذ 2007 في خطاب شهير له في مؤتمر الأمن الذي عُقد في مدينة ميونيخ بأنّ القطبية الواحدة ليست مقبولة وأن الأمن في أوروبا أمن مشترك لا يمكن تجزئته. تجاهل الأطلسي، أيّ الولايات المتحدة، ذلك التحذير فقام بالثورات الملوّنة التي أطاحت بحكومات قريبة من موسكو. وفي مؤتمر بوخارست في 2008 كان القرار لدول الأطلسي بفتح باب انتساب جورجيا وأوكرانيا للحلف. ففي ذلك القرار تمّ زرع جذور الأزمة الحالية. كما حاولت جورجيا في نفس السنة والتي حصلت فيها «ثورة» ملوّنة اجتياح إقليم اوسييتيا فكان الردّ الروسي صاعقاً ومفاجئاً علماً أنه قبل ذلك كان قد قضى على تمرّد الشيشان.

ردّ روسي غير متوقّع

لم يتوقع الأطلسي قوّة الرد الروسي وفعّاليته ولم يكترث لذلك واعتبره انتكاسة يمكن التعويض عنها عبر الانقلاب الذي دفعت به في أوكرانيا 2014 والاتيان بحكومة شديدة العداء لروسيا تسيطر عليها اقلّية نيو نازية. ثم حاول الأطلسي في أواخر 2021 تغيير النظام في بلاروسيا وفي 2022 تكرار السيناريو في كازاخستان لاستكمال محاصرة روسيا فنجحت الأخيرة بوأد التمرّد والقضاء عليه في البلدين بسرعة فائقة أذهلت العالم. لكن الردّ الأميركي/ الأطلسي على مطلب روسيا بتحييد أوكرانيا وعدم ضمّها للحلف الأطلسي كان التجاهل المطلق وعدم الاكتراث. ثم جاء تصريح الرئيس الأوكراني بضرورة تزويد أوكرانيا بسلاح نووي. فكانت بمثابة الشعرة التي كسرت ظهر البعير. لذلك كان الهجوم «الدفاعي» الذي بدأ في 25 شباط/ فبراير 2022 وما زال قائماً عند إعداد هذه المقاربة.

لم تضع العملية العسكرية الروسية الواسعة في أوكرانيا أوزارها لكن يمكننا أن نستخلص بعض العبر التي ستكون أساسية لفهم المستقبل العالمي. فأولى هذه العبر هي أنّ الولايات المتحدة والحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي نجحا في جرّ روسيا إلى مواجهة عسكرية في أوكرانيا مع القوّات المسلّحة الأوكرانية والكتائب النيونازية التي تسيطر على مقدّرات البلاد. وهذا النجاح التكتيكي الطابع سيكون له تداعيات استراتيجية سلبية كما سنشرحها لاحقاً.

ثاني النجاحات هي ضرب التقارب الأوروبي الروسي بشكل عام ومنع التقارب الروسي الألماني عبر تجميد تشغيل خط سيل الغاز الشمالي الثاني (نورستريم 2). والمعلوم أنّ روسيا تزوّد ألمانيا وأوروبا بحوالي من 40 بالمائة من احتياجاتها في الغاز لكن مع تعثّر خط الغاز الذي يمرّ بأوكرانيا أصبحت ألمانيا وأوروبا مكشوفة بشكل كبير تجاه الغاز. ونذكّر هنا أن خطا نورستريم 2 تمّ بناؤه بناء على طلب ألمانيا بعد الانقلاب الذي حصل في أوكرانيا سنة 2014. لذلك يصبح إقفال ذلك الخط نجاحاً تكتيكياً آخر لكن مردوده الاستراتيجي سيكون كارثياً على المانيا وأوروبا التابعة للولايات المتحدة.

ثالث النجاحات هو فرض إجراءات تحاصر روسيا مالياً واقتصادياً لعزلها عن العالم ولإخضاعها بغية قلب النظام القائم واستيلاد حكومة تابعة للغرب تمهيداً لاستيلاب الثروات الاقتصادية الضخمة الموجودة في روسيا. لكن هذا النجاح التكتيكي في الحصار سيكون كارثياً على الولايات المتحدة حيث ينذر بتسريع نهاية هيمنة الدولار في التداول العالمي.

رابع النجاحات هو السيطرة على السردية الإعلامية بشكل مطلق في الدول الغربية. لكن بالمقابل كرّس سقوط الاعلام المهيمن الذي لم ينقل وقائع العملية العسكرية بشكل صحيح بل اكتفى بسرد الأكاذيب والتضليل والتلفيق ما أنهى مصداقيته في الولايات المتحدة حيث الاعلام الموازي اكتسب شرعية متنامية في معركة «المصداقية».

نكتفي بهذه «النجاحات» التي تستدعي تدقيقاً لمعرفة يقينها واستخلاص العبر.

هذه المقاربة السريعة لخلفية وسياق العملية العسكرية في أوكرانيا كانت ضرورية لفهم الموقف الروسي الدفاعي. فتجاهل المطلب الروسي من قبل الأطلسي وخاصة من الولايات المتحدة سواء كان متعمّداً لأسباب عقائدية أو نتيجة عنجهية وغرور هو سبب العملية. هناك من يعتبر أنّ التجاهل كان متعمّداً لجرّ روسيا إلى «المستنقع» الأوكراني واستنزافها عسكرياً وفرض إجراءات اقتصادية قاسية هدفها عزل روسيا وإحداث اضطرابات في روسيا تتوّج بانقلاب على الرئيس بوتين والإطاحة به وتغيير النظام والإتيان بنظام شبيه بالنظام الذي كان قائماً في ولاية بوريس يلتسين الذي سيسهّل الاستيلاء على الثروات الروسية وتفكيك روسيا. ففي عقيدة المحافظين الجدد والمتدخلين الليبراليين المهيمنين على القرار السياسي الخارجي الأميركي الهدف هو إنهاء روسيا كمنافس محتمل للهيمنة الأميركية في العالم.

أهداف غربية عديدة لكن بلا نتيجة!

لكن ما هي النتيجة حالياً ومستقبلياً للموقف الغربي (الأطلسي والأميركي) من جرّاء الإجراءات التي اتخذها تجاه روسيا؟

من الواضح انّ الولايات المتحدة وسائر دول الحلف الأطلسي لن يتدخلوا عسكرياً بشكل مباشر بل سيكتفون بالحصار الإعلامي أولاً والدبلوماسي ثانياً، والاقتصادي والمالي ثالثاً، إضافة إلى تمويل عمليات التخريب في أوكرانيا وربما في روسيا عبر شبكات من العملاء. وهذا دليل على الضعف العسكري وفقدان القدرة على تحمّل ضريبة الدم فلذلك يلجأ الغرب إلى هدر دم الآخر بما فيه الدم الأوكراني كما فعل في سورية.

فعلى الصعيد الإعلامي استطاعت الولايات المتحدة وحلفاؤها السيطرة الكاملة على السردية التي يفرضونها على الجمهور الغربي عبر منع المنصات والمنابر لمن يخالف السردية. كما انّ السردية مبنية على الأكاذيب التي يُمنع تفنيدها تساهم في تعميق سوء التفاهم بين الشعوب بل في تعميق الكراهية بين الشرق والغرب. ونعتقد انّ الرقابة المفروضة من قبل المراجع الغربية ومنع المنصات الناقدة هي ظاهرة ضعف وليست ظاهرة قوة كما أنها ظاهرة تؤكّد فقدان الحجة والبرهان. فمن تابع روايات المراسلين الأجانب في أوكرانيا لصالح وسائل الإعلام الغربية يجد أنّ مضمون الرواية مخالف للحقيقة. فسردية «النجاحات» العسكرية الأوكرانية ضدّ الجيش الروسي لا تترجم بدلائل مادية. كما أنّ تلك الوسائل وبشكل جماعي لم تبرز أيّ خارطة للواقع الميداني. فأين توجد القوّات المتصارعة غير معروف في وسائل الإعلام الغربية بينما في وسائل الإعلام الموازي وغير المهيمن نرى خرائط عن التحرّك والتقدّم.

لكن في آخر المطاف الجمهور العام الذي لا يستثمر وقته في البحث عن الحقيقة لا يعرف فعلياً أين أصبحت الأمور. والفطرة الموجودة عند الجمهور الغربي وخاصة في الولايات المتحدة جعلته يشكّك في ما يبثّه الاعلام المهيمن. لذلك لا نجد حتى الساعة موجات من الاحتجاجات ضدّ «الاحتلال» الروسي لأوكرانيا دون أن يعني ذلك التأييد لروسيا وعمليتها العسكرية. وهذه نقطة مهمة يجب التوقف عندها لأنّ في المستقبل القريب ستجد الحكومات الغربية صعوبة كبيرة في تسويق سياسات غير مقبولة لدى الجمهور العام سواء على صعيد الصراع في أوكرانيا وغير أوكرانيا وعلى صعيد مختلف السياسات الداخلية عندما تنكشف حقيقة الوقائع الميدانية والسياسية. فذاكرة الكذب حول سلاح الدمار الشامل في العراق واحتلال العراق وما نتج من مآسٍ ما زال في ذاكرة الجمهور العام.

هذه السيطرة على السردية الإعلامية لم تستطع أن تخفي العنصرية الغربية تجاه الشعوب السمراء والصفراء والسوداء. فـ «زلّات اللسان» للمراسلين الأجانب حول «بيضوية البشرة وزرقاوية العيون» للاجئين الأوكرانيين الفارين من ساحات الاشتباكات والتركيز على «مسيحيّتهم» و»تمدّنهم النسبي» كشف العنصرية الغربية تجاه الشرق. هذا في وسائل الإعلام المهيمن فما بالك في ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي؟! لم يكن ذلك في الحسبان ومن الصعب تصوّر ما يمكن أن يفعله ذلك الإعلام لتصحيح الصورة عنه. المشكلة أو حتى المصيبة التي تعصف بالنخب الحاكمة في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أنها أصبحت منقطعة عن الواقع. فهي أصبحت تصدّق الأكاذيب التي أطلقتها وتبني سياساتها ومواقفها من منطلقات عقائدية ورغبوية منقطعة عن التطوّرات الميدانية.

الخطورة في الموقف الغربي هو التحوّل السريع من مواجهة سياسية مع خصم أيّ روسيا إلى محاولة ألغاء مجتمع وثقافة برمّتها. فطبيعة الإجراءات التي اتخذها الغرب ليست لمواجهة الرئيس الروسي وسياساته بل لإلغاء روسيا. فهذا هو الدافع العقائدي الذي يحكم النخب الحاكمة في الغرب وبالتالي تحويل الصراع السياسي على النفوذ إلى صراع وجودي يحمل في طيّاته كافة الاحتمالات النافية للوجود كالحرب النووية. فعندما سئل وزير الخارجية لافروف عن احتمال قيام حرب عالمية ثالثة نووية أجاب «اسألوا بايدن»! لكن موازين القوّة الفعلية على الأرض مختلفة كلّياً عن التقديرات الرغبوية في المحافل الدولية وبالتالي سنشهد في الأسابيع المقبلة وقائع على الأرض لم تكن في الحسبان الغربي.

المناعة الاقتصادية الروسية كبيرة جداً

أما الإجراءات الاقتصادية والمالية فهي سلاح ذو حدّين. الرهان الغربي هو تردّي الأوضاع الاقتصادية في روسيا لخلق بيئة مضطربة تزيد من النقمة على الحكم وتؤدّي إلى ثورات للإطاحة بالنظام والرئيس. ما يغيب عن بال المخطّطين أن القيادة الروسية كانت منذ 2008 تخطّط للحظة المواجهة. لسنا هنا في إطار سرد الخطوات التي أقدمت عليها طيلة السنوات الماضية بل نكتفي بالقول إنّ المناعة الروسية في القطاعات الاقتصادية والمالية الاستراتيجية كبيرة جداً بسبب البدائل التي أقامتها لمواجهة الحصار الاقتصادي والمالي. بل كلاعب الجودو استطاعت القيادة الروسية استعمال قوة الخصم ضده. فالإجراءات المالية والاقتصادية التي اتخذها الغرب تجاه روسيا تظهر مدى انكشاف تلك الاقتصادات تجاه روسيا بما فيها الولايات المتحدة وإنْ كانت بدرجات متفاوتة من الانكشاف.

قراءتنا للعقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها هي أنها موجّهة فعلياً ضدّ أوروبا الغربية التي كانت تظهر ملامح التململ من الإملاءات الأميركية. فهذه العقوبات فرضت وحدة موقف أوروبية قصرية قد تطيح بأيّ تطلّع استقلالي على المدى القصير. لكن معظم الحكومات الأوروبية التي رضخت للولايات المتحدة تواجه استحقاقات انتخابية في وضع اقتصادي متردّ أصلاً ويزداد تردّياً بسبب العقوبات. فعلى سبيل المثال، العقوبات على روسيا كتوقيف العمل بالسيل الغاز الشمالي الثاني (نور ستريم 2) سيؤدّي إلى أزمة طاقة تضرب البنية الاقتصادية الصناعية الألمانية وتزيد من كلفة التدفئة أضعافاً مما كانت عليها. وهذه قضايا تشكل محور الصراع السياسي الداخلي. فأزمة الطاقة التي بدأت تجتاح أوروبا وارتفاع كلفتها ترافقها أزمة ارتفاع المواد الغذائية. والانكماش الاقتصادي الذي دخلت فيه قد يتحوّل إلى كساد كبير. فالكساد في اقتصاد منتج هو انخفاض مستوى الإنفاق الاستهلاكي الذي يخفّض الطلب الفعلي ويؤدّي إلى تفاقم البطالة فإلى تراجع في الدخل فإلى المزيد من تراجع في الإنفاق الاستهلاكي ليصل بفعل المكرّر الاقتصادي (economic multiplier) إلى حالة جمود فركود لها ارتدادات سياسية واجتماعية قد تقلب الطاولة على رؤوس النخب الحاكمة.

أما في الدول الريعية التي تستورد معظم حاجياتها فارتفاع الأسعار يؤدّي إلى نقمة اجتماعية. وما يزيد الطين بلّة بالنسبة لدول مثل المانيا وفرنسا وإيطاليا التي ما زالت تحافظ على قاعدة إنتاجية صناعية هو فقدان قدراتها التنافسية بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج ما سيجعّلها تتخلّى عن القاعدة الصناعية لتدخل في مرحلة ما بعد الصناعة فإلى المزيد من الانكشاف تجاه الدول المصنّعة الصاعدة كالصين والهند ودول أميركا اللاتينية. فإذا كان هدف الغرب بقيادة الولايات المتحدة محاصرة الصين فإنّ الإجراءات التي اعتمدها تجاه روسيا وبشكل غير مباشر تجاه أوروبا ستكون لمصلحة الصين! هذا ما نقصده بالربح التكتيكي القصير المدى الذي يصبح خسارة استراتيجية طويلة المدى!

ضرب ديمومة النظام المالي

من جهة أخرى، فإنّ قرار إخراج روسيا من منظومة «سويفت» ومعاقبة عدد من المصارف الروسية وأهم من كل ذلك تجميد أصول وأموال المصرف المركزي الروسي فإنّ ذلك يضرب في الصميم ديمومة النظام المالي الذي بحاجة إلى استقلال واستقرار بعيداً عن التقلّبات السياسية. كما أنّ مصداقية التعامل مع المراكز المالية الغربية وخاصة الأميركية انتهت إلى غير رجعة. فمن هي الدولة التي ستبقى مطمئنة على أصولها وموجوداتها المالية تحت السيطرة الأميركية والغربية؟ هذا سيؤدّي حتماً إلى التسريع في نظام مدفوعات مالي دولي بديل وخارج عن سيطرة الولايات المتحدة ومنظومتها المالية. توجد الان منظومات موازية ل «سويفت» تعود للصين كنظام «سي أي بي أس (CIPS)، ولروسيا في نظام اس أف بي أس (SFPS)، وللهند في نظام أس أف أم أس (SFMS). الخطر المباشر هو تنامي المنظومة الصينية كما أشار عدد من الخبراء كدافيد برانكاسيو وجنيفر باك وهما خبراء ماليين دوليين. ونضيف ماذا إذا أقدمت كل من الصين والهند وروسيا على تشبيك أنظمتها؟ فلا يجب أن ننسى أن الكتلة البشرية والجغرافية التي تمثّلها هذه الدول الثلاث لها وزنها الاقتصادي في العالم يصعب تجاهله في الحد الأدنى بل هو مؤثر بشكل كبير على مصالح اقتصادات العالم الغربي. ما لفت نظرنا أن قرار إخراج روسيا من منظومة «سويفت» حذّرت منه المؤسسات المالية الأميركية كالاحتياط الاتحادي والمؤسسات الكبرى كغولدمان ساكس وبلومبرغ لأنّ ذلك سيسرّع في تنامي الأنظمة المنافسة بما فيه الشبكات العنكبوتية المالي. والمعلومات الأولية تفيد أنها بدأت فعليا. لكن السياسة أقوى من الاعتبارات الاقتصادية والمالية ما يؤكّد مقولتنا أن السياسة هي المحرّك الأساسي وأنّ الاقتصاد ليس إلاّ وجها للسياسة ولكن بلغة الأرقام.

من تداعيات الإجراءات العقابية على روسيا هو تسريع التخلّي عن الدولار في الدول المنافسة الرئيسية كالصين وروسيا وستلحقها الهند. كما سيتنامى تخفيض الاحتياطات النقدية بالدولار بعدما أقدمت الولايات المتحدة على تجميد أو السطو على الأصول المالية للمصارف المركزية. لا ننسى كيف تمّ الاستيلاء على أموال إيران بعد الثورة الإسلامية ولا على أموال ليبيا ومؤخرا على أموال أفغانستان. فانخفاض الطلب على الدولار عالمياً سيفقد الولايات المتحدة سلاحاً أساسياً استخدمته في تمويل حروبها على شعوب ودول العالم.

في الخلاصة، نستطيع أن نقول إنّ النجاحات التي حققتها الولايات المتحدة على صعيد مواجهة روسيا سترتدّ على حلفائها في الدرجة الأولى كما سيصيبها ارتدادات ذلك. لكن سنفصّل كلّ ذلك في مقاربة منفصلة لاحقة لضيق المساحة المتاحة الآن.

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى