موسكو وواشنطن وخبرة الحرب السوريّة في أوكرانيا
ناصر قنديل
– نقل عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوله تعليقاً على مسار الحرب في أوكرانيا أن «الأميركيين رأوا مصادر قوتنا في سورية وحاولوا تقليدها لخوض حرب رابحة، ونحن رأينا نقاط ضعفهم ووضعنا ما يلزم من خطط لجعل حربهم خاسرة». ويشرح أحد الخبراء الذين يتابعون الحرب الدائرة في أوكرانيا عن كثب بصفتها حرباً أميركية روسية، معنى كلام الرئيس بوتين، فيقول أن الحرب تبدو أقرب لنسخة منقحة من الحرب السوريّة، يختبر فيها الطرفان في أخطر ساحة مواجهة، وربما آخر ساحة مواجهة قبل ترسيم التوازنات الدولية الجديدة والخرائط الدولية الجديدة، كل ما أدخلاه من تعديلات على خطط الحرب من خلال خبرة كل منهما المستقاة من دوره المحوريّ في الحرب السورية، التي أتاحت لكل من الدولتين العظميين فرصة التعرف عن قرب على خطط حرب الخصم، لمدة طويلة أتيح لكل منهما خلالها الزجّ بقوى جديدة وإجراءات جديدة، وتعديل وتنقيح الخطط، حتى استنفدت سورية ما توافر فيها بصفتها ساحة المواجهة الحاسمة الأولى بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، وسيادة القطب الأميركي الواحد وبدء مسار الصعود الروسي.
– بالمقارنة مع الحرب السورية يبدو الأميركيون قد اختاروا للحرب البلد الذي يجعل الحرب روسية أوروبية، فأوكرانيا وحدها تملك هذه الحساسية الخاصة بالنسبة لكل من روسيا والدول الأوروبية، ويمكن لها تفجير كل ما تم بناؤه بين الطرفين من خطوات متقدّمة بلغت اقتصادياً وسياسياً مرحلة الإيحاء بأن أوروبا تحولت او تكاد الى حليف أقرب لموسكو من واشنطن، ولذلك فقد منحوا هذه الحرب كل ما يعتقدونه فرصاً للفوز من وحي ما اكتسبوه من خبرة خسارتهم للحرب في سورية، فجعلوا الرئيس الأوكراني رمزاً للعداء لموسكو أملاً باستدراجها لجعل هدف إطاحته عنواناً للحملة الروسية، والوقوع في ما وقع فيه الأميركيون لجهة جعل إسقاط الرئيس السروي هدفاً لحربهم، وقد تورط رؤساء أميركا تباعاً، باراك أوباما ودونالد ترامب، بتحديد مواعيد لرحيل الرئيس بشار الأسد فإذا بهم يرحلون ويبقى، بينما تمترس الأميركيون وراء الشرعيّة الدستوريّة للرئيس أسوة بما اعتبروه أهم مصادر القوة التي توفرت لروسيا في سورية، وعملوا لمنح الرئيس الأوكراني كل الأسباب التي تجعله مصدر إلهام لنشوء “مقاومة وطنية أوكرانية” ضد “غزو أجنبي”.
– أضاف الأميركيون لهذه الخبرة مصدرين إضافيين، الأول سحب ورقة الشرعية القانونية دولياً من يد روسيا بإجبارها على إدخال جيشها بصورة “غير شرعية” الى أراضي بلد آخر، والثاني بناء قوة شعبية وعسكرية ملتحمة في القتال وراء الرئيس الأوكراني ضد روسيا، بمثل ما بدت في سورية القوة الشعبية والعسكرية المتماسكة وراء الرئيس الأسد في مواجهة الحرب الأميركية. وهكذا حلت القومية البيضاء المتطرفة التي ترفع شعار النازية الجديدة، إلى نواة صلبة لألوية الجيش المقاتلة، ومحوراً لبناء ميليشيات متعاطفة، ونقطة انطلاق لاستقدام متطوعين متعاطفين، في محاولة لتقليد الدور الذي لعبه حزب الله ومعه قوى المقاومة في سورية.
– على الضفة الروسية كان أبرز عناصر الخبرة المكتسبة حول الخصم الأميركي، الانتباه الى خشيته المرضية من أية خطوة قد تؤدي إلى تصادم مباشر روسي أميركي، والبناء على هذا العامل الهام خطة حرب بطيئة لا مبرر للسرعة في خوضها. فالحرب البطيئة تتيح تخفيض الأضرار على المدنيين، كما تتيح ترك تداعيات وتفاعلات الحرب التي تريد لها موسكو أن تتجذّر وتنمو، أن تنال الوقت اللازم لذلك. والخبرة الثانية التي انتبهت لها موسكو كانت إدراك أن العقوبات هي السلاح المحوري بيد واشنطن، وأن تفكيك هذه العقوبات وتحويلها الى سلاح معاكس يدمر الاقتصاد الغربي كلما تم المضي باستخدامه وتصعيده، يحتاج إلى برود روسي في التعامل مع يوميات الحرب من جهة، والى مخزون احتياطي قابل للتصرف يسبق بدء الحرب، وهكذا بدأت موسكو تراكم مخزوناً من العملات والذهب خارج السيطرة الغربية، بلغ حاجتها للإنفاق لعامين، أي 350 مليار دولار، وتحت وطأة يوميات الحرب بدأت تداعيات العقوبات التي وجد الغرب نفسه منساقاً نحوها في سوق الطاقة، مصدر زيادة للعائدات الروسية مع زيادة الطلب والأسعار معاً، وسبباً لتنازلات مفرطة يقدمها الغرب لخصومه وحلفاء روسيا القادرين على سد فجوات السوق، كحال إيران وفنزويلا،، بما جعل ما بناه الأميركيون خلال ثلاثين عاما عرضة للتدمير دفعة واحدة.
– انتبه الروس لأهمية تحضير عناوين معركتهم لمنع الأميركيين من الإفادة من مصادر قوة روسيا في سورية، فوضعوا هدفاً يرتبط بالأمن الدولي وعنوانه حياد أوكرانيا، وهدفاً داخلياً يرتبط باجتثاث النازية وحق تقرير المصير للأقليات القومية، لكنهم تنبهوا أكثر لما بمكن أن يشكل العدة السريّة للأميركيين، في مجال الأسلحة الكيميائية، فبادروا مبكراً للتفتيش عن كل ما يتصل بالمختبرات والوثائق والمخزون الكيمائي والبيولوجي، وحققوا انتصارا معنوياً كبيراً بوضع اليد على كنز استخباريّ على هذا الصعيد.
– المعادلة الواقعية تقول إن ما بدا خبرة أميركية من الحرب السورية بقي تكتيكياً يزول مفعوله مع الوقت، وما يبدو خبرة روسية صار استراتيجياً تكبر مفاعيله مع الوقت.