ليس دفاعاً عن روسيا إنما عن الحقيقة…!
د. عدنان منصور*
بعد بدء العمليّات العسكرية التي قامت بها روسيا في أوكرانيا، شاهدنا في الأيام التالية ردود الفعل السريعة والعنيفة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، من خلال إظهار حميّتهما، وغيرتهما، واندفاعهما، وتحرّكهما «الإنسانيّ» لنجدة أوكرانيا، وذلك عبر شنّ أكبر حرب عالمية إعلامية، واقتصادية، ومالية، وثقافية على روسيا، لتنال منها، وتشوّه صورتها وسمعتها أمام العالم كله، وتلبسها ثياب النازية، وتلصق بها نزعة العدوان والتوسع، والسيطرة.
أمام تصريحات القادة الأميركيين والأوروبيين، من جو بايدن وإيمانويل ماكرون، مروراً ببوريس جونسون، وأولف شولتز، وصولاً الى جوزيف بوريل، نشاهد مدى تجلي «العدالة» الأميركية والأوروبية التي تفيض بـ «الحسّ الإنساني» العميق تجاه بلد أوروبي كأوكرانيا، والحرص الشديد، على احترام «الديمقراطية»، والشرعية الدولية، وحقوق الشعوب، والدفاع عن حق الشعب الأوكراني في اتخاذ قراره الوطني الحر، وصون استقلاله، وسيادته.
عندما نرى «شهامة» و«نخوة» الحلف الأطلسي يسارع الى تقديم كافة وسائل الدعم العسكري، واللوجستي، والإعلامي الذي فاق كلّ حدود، وتقديم المساعدات الضرورية لأوكرانيا لمواجهة المدّ العسكري الروسي، حفاظاً منه على «القيم» و«المبادئ السامية» التي لا ينفكّ الغرب عن التشدّق بها، وإلقاء المواعظ والدروس علينا!
كم نشعر بالقرف والاشمئزاز، من سياسات القوى الغربية، عندما تكيل بمكيالين، إزاء قضايا الشعوب المضطهدة، والدول التي تعاني من القهر، والاستغلال على أيدي قوى الاستبداد والتسلّط الكثير الكثير.
أين شفافية وصدقية القوى الغربية وموقفها الإنساني من الحصار الشرس القاتل، الذي تفرضه دولة العدوان «الإسرائيلية» على الشعب الفلسطينيّ منذ عقود، واستمرارها في تعسّفها، وممارستها لسياسة التمييز العنصريّ، والتصفيات الجسدية بحقه، وتهجيره، ومصادرة أراضيه وبيوته؟!
أين صدقيّة الغرب وتباكيه على حقوق الإنسان، وهو الذي انتهكها بشكل سافر، وفعل ما فعله، ويفعله في أفغانستان، وليبيا، والعراق، وسورية، ولبنان، والسودان، والصومال، واليمن، وفنزويلا وكوبا والبوسنة، وأنغولا والكونغو، والقائمة تطول وتطول؟!
واشنطن ومعها الاتحاد الأوروبي، لا تقبل بأن تقوم روسيا بحملتها العسكرية ضدّ أوكرانيا من أجل حماية سلامها وأمنها القومي، وإبعاد الخطر عن أراضيها المتلاصقة مع أوكرانيا! لكنها تقبل وتسمح لنفسها بغزو العراق الذي يبعد عنها عشرة آلاف كيلومتر، حفاظاً على الأمن والسلام العالمي! الولايات المتحدة تُجيز لنفسها الإطاحة بالأنظمة الوطنية في العالم الرافضة لسياساتها وهيمنتها، وتتعمّد حياكة المؤامرات، والانقلابات العسكرية، وإثارة الفتن، وإشعال الحروب الأهليّة، والاضطرابات، والفوضى في الدول التي ترفض السير في فلكها.
واشنطن جاهزة في كلّ وقت لغضّ النظر عن الجرائم، والانتهاكات الفاضحة للقانون الدولي، وهي تتجاهل الاعتداءات والممارسات التعسّفية، والخروقات التي يرتكبها العدو «الإسرائيلي» يومياً في فلسطين ولبنان وسورية!
إنّ الذي يثير العجب، هو أنّ الخارجية الأميركية وهي تتابع تطورات الأوضاع العسكرية في أوكرانيا، تقول: «لا تستطيع أيّ دولة تتحلى بالمسؤولية في العالم ان تكون محايدة حيال الغزو الروسي لأوكرانيا». لا ندري متى تحلّت الولايات المتحدة بالمسؤولية السياسية، والأدبية، والأخلاقية، والقانونية، وبالشرعية الدولية عندما قامت بغزو العراق وأفغانستان، واحتلت بالقوة مناطق في سورية، ودعمت دولة الاحتلال «الإسرائيلية» عند ضمّها للجولان،
وفرضها السيادة عليها، وعندما اعترفت بالقدس عاصمة لكيان العدو ضاربة عرض الحائط بالقانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، والقرارات الدوليّة ذات الصلة، واستخدامها حق الفيتو لأكثر من أربعين مرة على مدى أربعة عقود، ضدّ مشاريع قرارات لمجلس الأمن تتعلق بالاعتداءات، والانتهاكات، والجرائم الاسرائيليّة، والممارسات العدوانيّة ضدّ الفلسطينيين…
أين كانت نخوة واشنطن والغرب، عندما كانت تقصف غزة المحاصرة من قبل دولة العدوان؟!
لتقل لنا الولايات المتحدة التي تتباكى اليوم على حرية وديمقراطية وسيادة أوكرانيا، هل نجت وسلمت دولة واحدة من سياسات القهر والاستبداد التي مارستها واشنطن في دول القارة الأميركية، ابتداء من المكسيك شمالاً، مروراً بدول أميركا الوسطى، وصولاً الى دول أميركا الجنوبية؟! أليست واشنطن من زرع الأنظمة الدكتاتورية في أميركا اللاتينية في القرنين التاسع عشر، والعشرين؟! فكان سوموزا في نيكاراغوا، وميخادو، وفي ما بعد باتيستا في كوبا، وتروخيليو في الدومينيكان، وأوبيكو في غواتيمالا، واندينو في هندوراس، وماتينيز في السلفادور! من تدخل عسكرياً غير الولايات المتحدة في البرازيل عام 1964، والبيرو عام 1965، وغواتيمالا عام 1967، وتشيلي عام 1973! من أتى بالدكتاتور بينوشيه في تشيلي، ومن كان وراء الانقلاب العسكريّ في الأرجنتين عام 1979! من دعم العناصر المسلحة الكونترا ضدّ زعيم نيكاراغوا دانيال أورتيغا غير الولايات المتحدة، التي أدانتها محكمة العدل الدولية في لاهاي، لاستخدامها القوة بصورة غير شرعيّة!
تاريخ أسود سطرته واشنطن، لم تسلم منه دولة من المؤامرات والانقلابات العسكرية، والاضطرابات، والفتن، والثورات الداخليّة والحروب الأهليّة، التي أشعلتها الولايات المتحدة وأجهزة مخابراتها على مدى أكثر من قرنين من الزمن؟!
لتقل لنا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اللذان يقلقهما مصير زيلينسكي في أوكرانيا ونظامه «الديمقراطي»، من تٱمر على الأنظمة الوطنية في العالم على مدى عقود، ومن كان وراء الانقلابات التي أطاحت، بباتريس لومومبا في الكونغو وسلفادور الليندي في تشيلي، وكوامي نكروما في غانا، وأحمد سوكارنو في أندونيسيا، ومحمد مصدق في إيران، وذو الفقار علي بوتو في باكستان، وباندرانايكا في سريلانكا والقائمة طويلة…؟
إنّها الولايات المتحدة ومعها دول الغرب، وسجلهما الاستعماري القبيح، المبلل بدماء الشعوب المضطهدة .فهي لا ترى كما أوروبا، إلا بعين واحدة، لا بغيرها. هذا هو سلوكها السياسي والأخلاقي الذي عرفه العالم، وعلى الأخص شعوب منطقتنا التي لا تزال تعاني من طغيانها، وتسلطها، ومصادرة قرارها .
بعد كلّ ذلك، يريد الغرب أن تثق به شعوب العالم، وتصدّقه، وهو ينصب نفسه نصيراً لها، وحامياً لحريتها وحقوقها، والأمين على مصالحها وسيادتها، واستقلالها!
ألم يكن بمقدور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجنّب استفزاز روسيا ولأمنها القومي، والتوقف عن التمدّد شرقاً، جاعلة أوكرانيا ورئيسها زيلينسكي رأس الحربة، وكبش الصراع الدائر مع روسيا؟! وهل أخذت أوروبا قبل الولايات المتحدة بالاعتبار، ردود الفعل الروسيّة على وجود مختبرات بيولوجية وبكتريولوجية على الأراضي الأوكرانيّة، وما تشكله هذه المختبرات من تهديد مباشر لروسيا وأمنها القوميّ، وسلامة شعبها؟!
ماذا لو أنّ روسيا أرادت زرع الصواريخ مجدّداً في كوبا بالتوافق مع نظامها، هل كانت واشنطن لتقبل بالأمر الواقع، دون أن يكون لها ردّ فعل عنيف وحاسم؟!
ألم يكن بمقدور الاتحاد الأوروبي عدم مجاراة واشنطن في سياساتها العدائية ضدّ موسكو، حيث المستفيد من الحرب الأوكرانية الولايات المتحدة وحدها، والخاسر الأكبر الاتحاد الأوروبي وروسيا، ودول عديدة في العالم؟! فأين المعادلة في ميزان الربح والخسارة بين أوروبا وأميركا، في صراعهما مع روسيا، عندما تحصد واشنطن في نهاية الشوط المكاسب، وتدفع دول أوروبا بعد ذلك الثمن الباهظ، وتدفع معها دول العالم ثمن تداعيات الحرب، وخلخلة الاقتصاد العالمي، وضرب أسسه الصناعية، والتجارية والمالية والمصرفية، وشلّ شرايينه الطاقوية؟!
متى ستتخلى أوروبا عن تبعيتها العمياء للولايات المتحدة، وتسير وراءها في كلّ صغيرة وكبيرة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولا تزال مستمرة حتى اليوم!
متى سيكون للاتحاد الأوروبيّ قراره السيادي المستقل، المتحرر من التأثير، والضغوط والابتزاز، والتخويف الأميركي، ليخرجها من دائرة نفوذ واشنطن، التي تزجّها من آن الى آخر في حروب عبثيّة هي بغنى عنها!
روسيا رغم الخطر الذي تعرّضت له، ورغم تحذير، وتنبيه أوكرانيا للسياسة المعادية التي تتبعها ضدّها، لا يحق لموسكو بالمنطق الغربي الأميركي ـ الأوروبي، تصحيح وضع لا بدّ منه، حفاظاً على أمنها القومي وسلامة شعبها. لكن يحق لواشنطن في أيّ وقت أن تتدخل، ومتى أرادت في شؤون الدول، حفاظاً على نفوذها وهيمنتها وامتيازاتها؟
إنه النهج والسلوك السياسي القبيح للغرب، الذي يستمرّ باتباعه بكلّ عنجهية،، وهو يتلطى خلف شعارات براقة مزيفة، تنطلي على المغفلين، والسذج…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ