انتخابات لبنان عالقة بين تحدّيين: ترسيم الحدود البحريّة مع «إسرائيل» وترسيم الحدود بين الحكومة والقضاء و… المصارف
د. عصام نعمان*
أزمة لبنان المزمنة ولاّدة اسئلة ملتبسة لا تنتهي. آخر سؤال ـ أحجية يبحث عن جوابٍ: هل تجري الانتخابات في منتصف شهر أيار/ مايو أَم تُؤجّل؟
تحدّيات كثيرة «مؤهّلَة» لتبرير تأجيلها، لكن اثنين منها هما الأبرز والأطرف: (أ) صراع مسلح على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة يندلع نتيجةَ اعتزام «إسرائيل» مباشرة التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية أو (ب) عدم وجود أموال لدى الحكومة لتغطية نفقات إجراء الانتخابات ولا لدى المرشحين الراغبين في شراء الأصوات اللازمة لفوزهم بسبب إضراب المصارف، او كِلا السببين في آن.
الحكومة اللبنانية كانت مدعوّة لاستجابة عرضٍ قدّمه موفد واشنطن عاموس هوكشتين لتقاسم نتاج النفط والغاز في المنطقّة البحرية المتنازع عليها. الحكومة تأخرت في إعطاء جوابٍ على العرض بسبب خلافٍ على مضمونه بين رؤساء الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء. أواخرَ الأسبوع الماضي اتفق الرؤساء الثلاثة على ألاّ يتفقوا وأن يجاملوا واشنطن بدعوتها الى «الاستمرار في جهودها لاستكمال المفاوضات بشأن ترسيم الحدود البحرية «وفقاً لاتفاق الإطار بما يحفظ مصلحة لبنان العليا والاستقرار في المنطقة». بعبارة أخرى: لا هم رفضوا عرض هوكشتين ولا وافقوا عليه بل طلبوا استكمال المفاوضات وفق اتفاق الإطار.
ما مضمون اتفاق الإطار؟ انه مجرد آلية لمواصلة المفاوضات، فلماذا اختار الرؤساء الثلاثة المزيد من الشيء نفسه، اي شراء الوقت، الى ما لا نهاية او ربما الى نهاية تُرضي أميركا ومن ورائها «إسرائيل»؟
الجواب ليس لأنهم اختلفوا فقط على مضمون الجواب على عرض هوكشتين بشأن تقاسم مساحة المنطقة المتنازع عليها، بل لأمر آخر كان الأميركيون وعَدوا به وما وفّوا بوعدهم. الوعد كان تسهيل وصول الغاز المصري والكهرباء الأردنية الى لبنان عبر سورية الأمر الذي يستوجب رفع عقوبات قانون قيصر الأميركي عن دمشق مقابل موافقتها على إمرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر أراضيها.
أميركا لم تفِ بوعدها بل حاولت إجراء صفقة ضمنية: إمرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية الى لبنان شرط موافقة لبنان على عرض هوكشتين الذي يعطي «إسرائيل» معظم مساحة المنطقة البحرية المتنازع عليها التي هي في الأساس ضمن المياه الإقليمية اللبنانية، وما كان في وسع المسؤولين في لبنان، إعطاء جواب بصدده قبل إجراء انتخابات «مصيرية» لا يدري أحد من اللاعبين السياسيين المحليين كيف ستكون نتائجها. لذا فضّل أهل السلطة شراء الوقت بغية تأجيل إعطاء القرار الى ما بعد انتهاء الانتخابات.
الى ذلك، ثمة سبب آخر لتأجيل إعطاء جوابٍ على عرض هوكشتين هو شعور معظم اللاعبين المحليين بأنّ التوزيع الراهن للمقاعد داخل مجلس النواب معروف ومقبول ولعله أفضل لهم مما تشير إليه استطلاعات الرأي، لا سيما لجهة فوز مرجّح لحزب الله وحلفائه بعدد من المقاعد لا يقلّ عن 62 ما يعزّز سيطرتهم على صناعة القرار في مراكز السلطة.
فوق ذلك، لا تكفّ تعقيدات أزمة لبنان المزمنة عن توفير المزيد من الأسباب والذرائع لأهل نظام المحاصصة الطوائفية وشبكته الحاكمة تساعد في تدويم قدرتهم على تطويل عمر نظامهم الفاسد. فقد انفجر أخيراً صراع بين القضاء من جهة والقطاع المصرفي من جهة أخرى نتيجةَ قيام إحدى المحاكم بإصدار قرارٍ بأحقية أحد المودعين باسترداد وديعته من أحد المصارف الممتنعة عن ردّ الودائع الى أصحابها متذرّعةً بتعاميم مصرف لبنان المركزي، فما كان من دائرة تنفيذ الأحكام في بيروت إلاّ أن قامت بإغلاق المقر الرئيس للمصرف المحكوم والمنفذ عليه كما فروعه في شتى المناطق.
معظم المصارف استشعر الخطر الداهم إذ ليس لديها المال الكافي لردّ الودائع لأصحابها بعد أن جرى إيداعها مصرف لبنان المركزي الذي قام بإقراضها للحكومة وعجز هذه الأخيرة تحت وطأة الانهيار المالي والاقتصادي عن تسديد موجباتها المالية للمصرف المذكور. هذا ناهيك عن فضيحةٍ أخرى هي قيام بعض المصارف بتهريب رساميلها وأموال أصحابها الى الخارج وصعوبة استردادها في الظروف المحلية والدولية الراهنة.
الأخطر مما تقدّم بيانه اندلاع أزمة مدوّية بين الحكومة، بما هي السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية. ذلك أنّ رئيس الحكومة طالب المجلس الأعلى للقضاء بلجم ما أسماه أحكاماً شعبوية للقاضية غادة عون بما هي النائب العام الاستئنافي في محافظة جبل لبنان؛ الأمر الذي استثار سخط الجسم القضائي واستدعى إعلان عدد كبير من القضاة تضامنهم مع زميلتهم.
الى هذه الأزمة المستفحلة، تواجه البلاد أزمةً أخرى لا تقلّ خطورة عن سابقاتها. ذلك انّ عدداً من المصارف يميل الى الإضراب عن العمل وإغلاق فروعه في شتى المناطق ما سيؤدّي بالضرورة الى تعذّر تسديد رواتب الموظفين وأجور نقلهم الى مراكز الاقتراع وتعذر إجراء الانتخابات تالياً. فوق ذلك، فإنّ إغلاق المصارف يحول ايضاً دون تمكين بعض المرشحين الأغنياء الفاسدين من سحب الأموال اللازمة لشراء أصوات الناخبين!
كلّ وجوه هذه الأزمة المزمنة يتيح لأركان الشبكة الحاكمة المتخوّفين من أن تأتي نتائج الانتخابات لغير مصلحتهم أسباباً وذرائع تكفي لتأجيل الانتخابات والتنعّم بميزان القوى الراهن في مجلس النواب الحالي.
قد تبدو هذه الواقعات والتطورات «طبيعية» ومقبولة، ولكن ماذا تراه يواجه لبنان واللبنانيين إذا ما اندلعت تحديات أكثر قسوة وخطورة، لن يكون أقلّها انتخاب رئيس جديد للجمهورية في شهر تشرين الاول/ أكتوبر المقبل وسط معمعة انقسامٍ وتشرذمٍ وصراع مرير على السلطة والمغانم بين أطراف محلية وخارجية شديدة الشراسة وهائلة المطامع؟
سؤال ـ أحجية، أليس كذلك؟