أخيرة

قبل فوات الأوان…!

} أيمن عبيد

تواجه الدراما المصرية مأزقاً قاسياً، قد لا تكون واجهت مثيلا له، في مدى مشوارها الطويل! وإذا ما سلمنا جدلاً ان الأذرع الفنية والثقافية والإبداعية التي صاغت ما يعرف بقوة مصر الناعمة، قد منيت بانتكاسة واضحة، لعوامل وأسباب عدة يطول شرحها؛ ما أثر سلباً على حجم ومركزية الدور الذي طالما لعبته، ردحاً من الزمن، في تشكيل الوجدان العربي، فنا وإبداعا وثقافة، فلربما يمكننا القول، إن صناعة الدراما كانت أقلّ المتأثرين بهذه الانتكاسة، وإنْ بدرجات متفاوتة، فبقيت تعزف وحدها، أو تكاد، على وتر يربط المشاهد العربي بذراع مصرية، تذكر بين الفينة والأخرى، بهذه المرحلة التي فيها كانت أذرع مصر الناعمة، محلّ الأنظار والتناول والاعتبار. فالخلاصة التي ترتسم أمام المراقب، لمسار الدراما المصرية، وتحوّلاتها صعوداً وهبوطاً، في السنوات الأخيرة، تكاد لا تترك أمامه مفراً، من إطلاق نداء عاجل، لاستنقاذها من براثن مأزق تزداد وطأته يوماً بعد آخر؛ والتحذير من مغبة أخذها رهينة «سياقات أحادية نافرة» تقف حائلاً دون صوغها إبداعاً فنياً أصيلاً، لا تصدّه حواجز صماء، أو تعكر صفو انسيابه عناقيد من المحظورات، تتناسل بلا توقف، حتى باتت وجبة رئيسية ودائمة على المائدة الدرامية؛ يمنح طابخوها لأنفسهم، رخصة التوجيه والتدخل في اختيار المواضيع، ورفض ما يحلو لهم بالشكل والكيفية التي يريدون، وصولاً حتى انتقاء «الكاست» الفني والتقني اسماً اسماً، إذا ما لزم الأمر! ثم كان ان ترجم مؤخراً، وعلى نحو أكثر فظاظة، ذاك التحكم غير المعهود، بالدفع إلى إنشاء شركة إنتاجية شبه احتكارية، تضع يدها على الحصة النافذة والمهيمنة في سوق الإنتاج الدرامي.

والغاية من إنشائها لم تعد تخفى على أحد. فإحكام السيطرة على سوق الإنتاج، وحجب فرص التواجد عن المشكوك في أنهم يقدمون أعمالاً «حمالة أبعاد»، لا تلتزم سقامة البعد الواحد المراد تكريسه، ليس على صعيد الدراما فحسب، وإنما على أوسع رقعة من الفضاء العام؛ ودوزنة خريطة درامية وإنتاجية محصورة التوجه والأهداف؛ أصبح، على ما يؤشر إليه واقع الحال، مساراً أحادياً نافذاً، ولو أدى ذلك إلى خسارة محددات وشروط وعناصر حاكمة، لأيّ دراما تطمح أن تقدم منجزاً يُعتدّ به. في المقابل، تفرش السجاجيد الحمر، وتشرع الأبواب على مصراعيها، أمام ما يصحّ تصنيفه على انها «ثرثرة درامية خاوية»، تهيمن على الأغلبية الساحقة من الإنتاجات؛ لا تقول شيئاً ذا بال، قدر ما تستغرق.

في تناول القشور والفوارغ المتناثرة على سطح المجتمع، وتنعزل بالكلية عن الاشتباك مع قضايا ومشاغل جوهرية من شأنها، بقدر ما تحمل من أصالة الطرح وفساحة الرؤية وعمق المضمون، مخاطبة الوجدان لا الغرائز، شبك أواصر جدية لتنشيط الوعي الجمعي، والعزف على وتر الأفكار الكبيرة التي طالما محضت الدراما المصرية وهجاً وثقلاً، قبل أن تخلي مكانها لما دون ذلك من خواء.

والحال أن السعي المتصل، لإدارة دفة الدراما المصرية، وفقا لتصورات وأساليب وسياقات ضيقة الأفق، وصولاً إلى محاولة إفراغها من أصحاب الرؤى والحيثية والأبعاد، (ألا يعي هؤلاء ما يمكن أن تفرزه تداعيات مسعى كهذا على حاضر ومستقبل ذراع ناعمة، لطالما حافظت، في مدى سنوات، بمحتوى لامع ورصين، على حضور وتأثير وازنين بالساحة العربية، في وقت راحت تتراجع فيه كثيرا عناصر أخرى، في جدارية مصر الناعمة؟!) لصالح إصدار ورعاية وإشاعة نسخة بعينها، لا تقيم كثير اعتبار لمفاهيم القيمة والأصالة والعمق، والدفع بها إلى صدارة المشهد، بقصص وسيناريوات وأفكار كيفما اتفق. يضعنا، في نهاية المطاف، إزاء منتج درامي هجين. تغيب معه وبه كل أدوات وخطوط ومقاييس الطرح الهادف، ويتقدم الواجهة، تحت شجرته العليلة، من عاهدوا أنفسهم إلا أن يكونوا حراساً لثمار درامية رديئة؛ تمطر الشاشات ومنابر التواصل والأذواق، بسيل من الأعمال التي لا رسالة ولا هدف درامياً لها، غير الاستغراق في التركيز على نماذج وأجواء وقوالب اجتماعية وسلوكية وقيمية دون المستوى؛ وتشكيل حاجز مانع، في المحصلة الأخيرة، أمام أية إمكانية لولادة مشاريع درامية مغايرة وطموح، يؤمل منها أن تفتح نافذة أو تحدث خرقاً، ولو ضئيلاً، في جدار الحصار السميك. ما يفتح الطريق واسعا أمام فيض من علامات الاستفهام، ويعزز لدى المراقب النابه، ذاك الشعور العميق، بوجود استهداف يكاد يصل حدّ التخطيط الممنهج، لسلخ الفضاء الاجتماعي المصري عن أي ملمح فني أو جمالي أو قيمي أصيل!

 وعلى هذا المنوال، يتوالى فصولاً التعاطي والنظر إلى الكثير من قنوات الإبداع. وهو بحق لأمر ثقيل الوطأة. يقودنا إلى التذكير بما قاله يوما عميد الرواية العربية، نجيب محفوظ، انه إذا كان صحيحا أن مصر هبة النيل، على حد الوصف الشهير، للمؤرخ اليوناني هيرودت، فإن الصحيح أيضا أنها هبة إبداعها وفنها وأدبها وثقافتها وتياراتها الفكرية المتنوعة والخصيبة. وأي مساس يطال هذه الهبة حصراً، بأي شكل من الأشكال ومن أي مصدر كان، فمعناه الذي لا يقبل الشك ولا التأويل، أن ثمة من يسعى عامداً متعمداً، لإطلاق رصاصة في قلب مصر النابض!

فهل من يتعظ… قبل فوات الأوان؟

*كاتب مصري.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى