أولى

«زلزال» أوكرانيا يدمّر قواعد النظام الاقتصاديّ العالميّ

 د. جمال زهران*

أصبح من الأهمية تحديد ما يحدث على أرض أوكرانيا، حيث التدخل العسكري الحاسم من جانب روسيا، حفاظاً على أمنها القومي، ووقفاً لعبث حلف الناتو الذي يتحرك شرقاً، ولا يلتفت إلى تحذيرات روسيا بخطورة هذه التصرفات، الأمر الذي فرض على روسيا حسم الأمر بالتدخل كما رأيناه.

ولذلك فإنّ ما يحدث خطير للغاية، وله دلالات، وانعكاسات وتداعيات، بلا حصر. ويتوهّم من يرى أنّ ما يحدث سيتوقف عند نقطة معينة، أو أنّ روسيا ستقبل بحلول وسط عبر مفاوضات غير متكافئة ظاهرياً بينها وبين أوكرانيا، بينما هي في الخلفية مفاوضات بين روسيا والغرب (أوروبا وأميركا) عبر وسيط كسيح يسمّى أوكرانيا ورئيسها العميل زيلينسكي.

وفي تقديري أنّ ما يحدث في أوكرانيا، هو تقويض فرضته الظروف، إنْ لم يكن تدميراً كاملاً للنظام الدولي الذي تمّ تأسيسه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. وقد مرّ على هذا النظام (77) عاماً، تغيّر ما بين هيمنة أميركية على النظام الدولي وفرض الدولار كعملة دوليّة وفقاً لاتفاقية «بريتون وودز»، حتى إنتاج الصاروخ السوفياتي العابر للقارات عام 1954، ثم معركة بورسعيد عام 1956، والتي بموجبها خرجت القوى القديمة متمثلة في بريطانيا وفرنسا، من الساحة الدولية لتتولد أميركا كقائد للنظام الغربي الاستعماري بديلة عنهما وعن كلّ أوروبا التي دمّرتها حربان عالميتان. وفي المقابل تولد الاتحاد السوفياتي صاحب الإنذار الشهير لوقف العدوان الثلاثي على مصر، حتى كانت أزمة كوبا وحصار خليج الخنازير عام 1962، حيث اضطرت أميركا للاعتراف بالاتحاد السوفياتي كقطب منافس، بينما كانت الصين في الظلّ، تصارع من أجل البناء. ثم تولدت الحرب الباردة بين القطبين (الأميركي/ السوفياتي) طوال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، شهدت أحداثاً عالمية ضخمة حتى تفكك الاتحاد السوفياتي بنهاية عام 1991، فتمكنت الولايات المتحدة من السيطرة مرة أخرى على النظام الدولي طوال التسعينيات من القرن العشرين والحقبة الأولى من القرن الحادي والعشرين.

أيّ أنّ أميركا سيطرت لمدة (20) عاماً، شهدت أحداثاً ضخمة أيضاً، لكنها لم تكتف أو تشبع، بل سعت إلى المزيد من السيطرة بعد احتلالها العراق عام 2003، ثم بدأت في طرح أفكار «الفوضى الخلاقة»، وإعادة هيكلة الإقليم العربي والشرق أوسطي، وتحركت ثورات شعبية أصيلة، سمتها أميركا بالربيع العربي الذي روّجت له عبر «الفوضى الخلاقة»، فكانت بداية لأفول أميركي وصعود روسي جديد. حيث بدأ هذا الصعود في الأزمة السورية عام 2011، ثم الأزمة الأوكرانية الأولى عام 2014، وكلتاهما ساهمتا في إعادة ولادة روسيا كقطب دولي منافس لأميركا والغرب.

نحن إذن أمام مشهد جديد لنظام دولي جديد بالفعل يختلف عن جميع مراحل النظام الدولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية والذي استمر (77) عاماً، ويستحق أن يُقال عنه إنه النظام الدولي الأول بين (1945 – 2022). بينما الذي يتولد الآن هو النظام الدولي الثاني (2022 ).

فما هو الفارق الذي يقود إلى هذا التصوّر؟ لعلّ الإجابة تكمن في العملة الدولية السائدة. فقد كان الدولار سائداً، وتقاس به كلّ العملات الأخرى وفقاً لاتفاقية بريتون وودز. فلم تكن هناك عملة دولية تنافس الدولار الأميركي، بل كانت هناك عملات أوروبية متناثرة (المارك الألماني ـ الفرنك الفرنسي ـ الجنيه الاسترليني لبريطانيا وغيرها…). ثم تطوّر الأمر بعد تكوين الاتحاد الأوروبي مع بداية التسعينيات بالقرن الماضي، وإعلان عملة أوروبية موحدة هي (اليورو)، مع الإبقاء على الجنيه الاسترليني لبريطانيا، التي رفضت العملة الأوروبية الجديدة حتى خرجت من الاتحاد الأوروبي منذ سنوات محدودة.

إلا أنّ الصراع كان صامتاً بين أميركا وأوروبا، لأنّ اليورو، كعملة أصبحت تهدّد الدولار الأميركي، ولكن لأنّ الصراع داخل البيت الواحد (الاستعمار الغربي)، فقد كان الصراع تحت السيطرة!!

والجديد الآن أنه في ظلّ الأزمة الأوكرانية والتطورات الحادثة، أن كثفت أميركا وأوروبا ـ إلى حد المبالغة، العقوبات ضدّ روسيا، ومن أهمّها حظر شراء البترول والغاز وكلّ المنتجات الروسية، وغلق جميع المصارف والشركات الغربية في روسيا، وإلغاء التعامل البنكي عبر السويفت كود إلخ…

وفي إطار نظرية «الفعل وردّ الفعل»، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل كانت روسيا وهي تدخل أوكرانيا عسكرياً غير مدركة لتلك العقوبات رغم ضخامتها وغير المسبوقة تاريخياً، أو هل تصمت روسيا، وتتعرّض للضرر البالغ، الأمر الذي قد يدفع إلى الانهيار الاقتصاديّ والذي بدأ بانهيار العملة الروسيّة (الروبل)؟!

الإجابة بالتأكيد لا، فلا روسيا يمكن أن تظل صامتة، ولا هي قد تجاهلت احتمالات هذه العقوبات، وباعتبار أنّ هذه الدولة العظمى (روسيا)، دولة منتجة للنفط والغاز بشكل كبير، ومعادن نفيسة غير متوافرة لدى الغرب كله، كما أنّ أوروبا وخاصة ألمانيا، تعتمد في احتياجاتها للغاز والنفط الروسي بنسبة 80%، عبر خطين لنقلهما من روسيا إلى ألمانيا، لذلك، فإنّ روسيا أعدّت العدّة لضرب الاقتصاد الغربي، وفي المقدمة أميركا.

فما كان من روسيا العظمى بقيادة بوتين، إلا أن وجّهت الصفعة الكبرى التي تؤسس للنظام العالمي الثاني، بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تحصيل قيمة النفط والغاز، مقابل العملة الروسية (الروبل)، وهي أكبر ضربة للاقتصاد الغربي في مقدمته الاقتصاد الأميركي الذي تأسّس على هيمنة العملة الدولارية. وقد دخلت هذه الخطوة في التنفيذ ابتداءً من أول أبريل/ نيسان 2022، بينما الأزمة الأوكرانية مستمرة!!

ما الذي يترتب على ذلك: خسارة (700) مليون دولار يومياً، من أميركا وأوروبا، وارتفاع كبير في قيمة الروبل، الذي تأثر مع بداية العقوبات عقب التدخل الروسي في 24 شباط/ فبراير الماضي بالانخفاض. ولم يدرك الغرب هذه الخطوة التي كانت مفاجأة صاعقة له!! كما أنه لم يدرك حقيقة ترتيبات هذه الخطوة بين روسيا والصين طوال السنوات العشر الماضية. كما أنه لم يدرك أنّ روسيا والصين والهند وباكستان وإيران وسورية وكوريا الشمالية، قد اتفقت عقب اندلاع الأزمة، حول تبادل السلع بينها وخاصة البترول والغاز، بالعملات المحلية في ما بينها، وفي مقدمة ذلك عُملتا روسيا (الروبل)، والصين (اليووان).

وفي ضوء ما سبق، فإنّ نظاماً عالمياً ثانياً، دخل حيّز التنفيذ، ابتداءً من هذا الشهر (أبريل/ نيسان 2022)، يقوم على عملات جديدة متنافسة، سيكون لها أكبر الأثر في تشكيل هذا النظام وسماته وتفاعلاته. وأصبح مؤكداً، أنّ «زلزال» أوكرانيا، له أكبر الأثر في تدمير قواعد النظام الاقتصادي العالمي، والتأسيس لنظام عالمي ثانٍ. والأيام المقبلة ستشهد المزيد من التطورات…

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى