الزعيم في تلكلخ… استقبال يليق بقائد الأمة
عرفتْ تلكلخ الحزب السوري القومي الاجتماعي منذ أواسط الثلاثينات. وهذا يرد في الجزء الثاني من مجلد «من الجعبة» للأمين جبران جريج، إذ يفيد في معرض الحديث عن بدايات العمل القومي الاجتماعي في مناطق: صافيتا، مرمريتا، مقعبرة، وتلكلخ، ما يلي(1):
«والآن ننتقل إلى صافيتا التي غدت منفذية وأصبح الرفيق أديب طيار منفذاً عاماً لها وصارت تضم فروعاً حزبية في بعمرة، بيت الشيخ يونس، اليازدية، كرم مغيزل، رأس الخشوفة، المشتى، الدريكيش، الكفرون، العيون، والقرى المنتشرة على طريق جسر الأبرش، بدادا، الجرن، الجمشلية.
ومن صافيتا إلى منطقة مرمريتا حيث انتمى انطون سلامة والمحامي الياس عبد الله اليازجي اللذين كان لنشاطهما وبصورة خاصة الرفيق انطون سلامة، ثمره العملي المنتج فأصبحت مرمريتا مديرية وامتد الحزب منها إلى القرى المجاورة أخص بالذكر عمار الحصن التي كان فيها المحامي اللامع السياسي عزيز حديد(2) وفي طرف الحصن المقابل لمرمريتا في مقعبرة كان منها الرفيق وهبه الجرجس الذي كان قد انتمى في كلية الشويفات. بدأ نشاط حديد إلى ان كانت المحطة الأخيرة في هذه المنطقة مركز قضاء الحصن، أعني تلكلخ، فأعطت للحزب خالد كنج الدندشي ومحمد الدندشي الطالب في كلية التربية والتعليم في طرابلس».
هذا الانتشار دفع سعاده لأن يحقق زيارته التاريخية أواخر عام 1936 إلى محافظة اللاذقية، فتكون له الاستقبالات الشعبية في صافيتا، مشتى الحلو، مرمريتا، مقعبرة وغيرها وصولاً إلى تلكلخ.
وعنها يروي كل من الأمينين جبران جريج وعبد الله قبرصي في مذكراتهما.
«وصلنا تلكلخ قبل الغروب(3). وما ان أطلّ موكبنا على «باروحة» حتى فاجأنا مشهد لن أنساه ما حييت. فرسان الدنادشة بسيوفهم يقومون على خيولهم بعرض ترحيبي بديع للزعيم وموكبه. ان القلم ليعجز عن وصف ذلك العرض الجميل، المليء بالفروسية والشهامة.
تجري الخيول مقبلة إلى أن تصل إلى سيارة الزعيم وإذ بها تنقسم يمنة ويسرة، ومنها يترأس الموكب أمام السيارة ومنها تحمي المؤخرة فتصبح السيارة في وسط إطار من الخيالة المقاحيم وهكذا دواليك إلى أن وصلنا إلى البلدة حيث كان بالإنتظار ذلك القومي الاجتماعي الرائد خالد آغا الكنج (على لغة المنطقة).
نزلنا في دار الرفيق محمد بك ومن على الشرفة ألقى الزعيم خطبته الرائعة مخاطباً تلك السيوف التي كانت في خدمة العشيرة فتحوّلت بفعل النهضة القومية الاجتماعية إلى خدمة الوطن كله على مختلف عشائره وطوائفه.
بعد الكلمة عقد الزعيم جلسة إدارية مماثلة لتلك التي جرت في صافيتا وبعد سهرة قصيرة اقتصرت على برنامج تسلية محلي انصرف الجميع إلى النوم.
في صباح اليوم التالي قبل تناول الفطور راح يتحدث الزعيم مع بعض الرفقاء من الدنادشة عن الخيل فتبيّن لهم أنه خبير في هذا الحقل وفي ختام الحديث لشدّ ما كانت دهشتهم عندما طلب منهم فرساً يمتطيها صبحية.
تطوّع بعضهم لتلبية رغبته وأحضرت له ورافقه هذا البعض وما كادوا يخرجون من نطاق البلدة حتى راحت الفرس تنهب الأرض نهباً وتخلفهم وراءه. ظنوا أن الزمام أفلت من يده فوضعوا أيديهم على قلوبهم خوفاً عليه من أن يُصاب بمكروه. خصوصاً وقد ابتعد عنهم مسافة غير قصيرة وزاد ابتعاده إلى ان اختفى عن نظرهم وراء إحدى التلال. ما إن توارى عنهم حتى دب الذعر في نفوسهم ولكن ها هو يفاجئهم وهو منتصب على صهوة جواده ينتظر وصولهم بهدوء ونشوة عند قمة إحدى التلال وهو يربّت على رقبة الفرس اللاهثة ويداعبها. تنفسوا الصعداء إذ رأوه وزاح عن صدورهم كابوساً ثقيلاً.
عرفنا في ما بعد أنّ الزعيم تعلّم ركوب الخيل على الطرق الفنية العسكرية وهو يجيد هذا الفن.
عادوا إلى تلكلخ وكل من المرافقين يريد أن ينال قصب السبق في سرد ما جرى وكيف أن الزعيم يبزّهم، جميعهم، وبينهم الخيال والفارس المغوار فاستحق الزعامة عليهم في هذا السبيل أيضاً بجدارة وأهلية كبيرتين.
بينما ونحن نستعد للوداع إذ بولد يافع، يقف على إحدى الطاولات وينادي الزعيم. التفت إليه ليستمع إلى ما يريد قوله. قال: «حضرة الزعيم! إني أطلب من شقيقي مدير المديرية أن يدخلني الحزب وختم كلامه وهو يؤدي التحية القومية الاجتماعية بكل انضباط وجدية». ابتسم له وصافحه وقال له: «أهلاً وسهلاً بالرفيق نافذ».
***
بدوره يقول الرفيق المحامي نظمي عزقول(4) بصدد الزيارة إلى المدن والبلدات المنوّه عنها آنفاً، في حديث له مع جريدة «البناء» بتاريخ 2 آذار 1985 ما يلي(5):
«كان لسفري معه (يقصد الزعيم) إلى بلاد العلويين ومكوثنا ثلاثة أيام مجال رحب للتعرّف على نواح كثيرة في حياته ومنها الفروسية، ففي تلكلخ ركب على حصان وأخذ يقوم بألعاب فروسية جعلت فرسان الدنادشة مذهولين تماماً، وهناك استقبله زعماء العلويين وأكرموه وأقاموا له الدعوات خصوصاً بعد أن سمعوا خطابه الأول في صافيتا الذي جمع عدة آلاف من الناس. وأذكر أنه أوفدني إلى طرطوس لتكريس عدة منتمين جدد من أبناء المنطقة وقد ألقيت خطاباً يومذاك في متن عرنوق وكذلك عبد الله قبرصي.
وفي هذه الجولة عرفت الزعيم خطيباً ساحراً وأخلاقياً وبطلاً وصاحب صوت جميل فعند عودتنا من رحلتنا وكان ذلك بعد نصف الليل وكنت معه في سيارة واحدة وضوء القمر ساحر سمعته يغني بصوت حنون أغنية أعتقد أنها اسبانيولية فصرخت من إعجابي «طيّب! طيّب!»
***
بدوره يوضح الأمين عبد الله قبرصي عن الزيارة التاريخية ل سعاده إلى تلكلخ، في الجزء الأول من «عبد الله قبرصي يتذكر»(6):
«بلغنا تلكلخ قبيل غروب الشمس، المنفذ العام كان المحامي الفقيد عزيز حديد، الأمين السابق، يعتمر كوفية وعقالاً وعباءة وهو على صهوة جواد ومن حوله فرقة كاملة من الفرسان بالكوفيات والعقالات والعباءات.
كنت في السيارة مع المعلم أنا ونعمة ثابت، وكنا في طليعة الموكب، ما ان أطللنا على الفرسان حتى انقسموا، فريق بقي أمامنا، فريق عن اليمين والآخر عن اليسار، وفريق رابع يحرس السيارة من الوراء. كانت السيارة محاطة بكوكبة الفرسان الأشاوس.
أنا لا أزال أذكر كيف مسحت دموع الفرح، لم أشاهد فرساناً يحيطون بقائد قومي من قبل، كنت أشاهد القناصة الصياجيين المغاربة يواكبون المفوض السامي في حله وترحاله تلمع على جوانبهم السيوف، وكنت أشاهد الخيالة اللبنانيين يواكبون رئيس الجمهورية في الحفلات الرسمية. أما رجال الفكر والمناضلون الاستقلاليون، فما شاهدتهم إلا مكبّلين بالحديد يساقون إلى السجون أو إلى المنافي أو يسامون العذاب والحرمان.
لأول مرة شاهدت زعيم ومؤسس الحزب، في موكب العز القومي، يصل إلى تلكلخ ومن حوله الفرسان، وتتسارع السلطات المنتدبة، من عسكريين ومدنيين مستطلعة، تحاول رؤية الوجه الذي استحق كل هذا التكريم.
واخترقنا البلدة إلى قصر آل دندشي، الذين ضاق قصرهم بالرفقاء والمستقبلين والمدعويين، كان على باب القصر فارسان يحمل كلّ منهما سيفاً مشهوراً».
«كانت هذه الرحلة زادنا المعنوي للإندفاع في العمل، فقد لمسنا بالبنان أنّ شعبنا بدأ يتجاوب معنا. والحلم الذي كنا نحلم صار حقيقة، من بعد السرية والسجون، صرنا جماعة تعمل في وهج الشمس وعلى وقود الحرارة الجماهيرية المتقدة إيماناً وحماساً وحباً للعطاء.
«ولقد علمت من سعاده بعد عودته من الرحلة، كيف قصد متن عرنوق وطرطوس، وكيف ركب الخيل مع فرسان تلكلخ، لقد حقق كلّ أهدافه من الرحلة التاريخية لقد ازدادت ثقته بنفسه وبالشعب، لقد اكتشف الشعب من جهته أنّ القائد الذي اختاره هو القائد!
نتائج هذه الرحلة على الصعيد السياسي، كانت إيجابية وسلبية في آن معاً، لقد أوجست السلطات في سرها خيفة من ظهور الحزب بهذه القوة الشعبية الكبيرة في «جبال العلويين» وكيف أنها ستؤثر في وجدان اللبنانيين، فيلتفون حول الحزب المنقذ، فشددت عليه الرقابة وراحت تحسب له ألف حساب، أما الايجابيات فامتداد الحزب في كل الأوساط في الجمهورية الشامية والجمهورية اللبنانية وتحرك المغتربات…!
هوامش:
(1): من الجعبة: الجزء الثاني الصفحة: 212.
(2) عزيز حديد: لاحقاً صدر قرار حزبي بحقه. عرفت ابنه الرفيق مروان مسؤولاً ناجحاً للحزب في مفوضية انتيغوا وكنت زرته في مرمريتا وكان في وضع صحي متراجع. يجدر ان نكتب عن المحامي عزيز حديد .
(3): المصدر نفسه الصفحات: 31-32-33.
(4): شقيق الرفيق الدكتور كريم عزقول، والرفيق المحامي اميل عزقول (سان باولو) تولى في الحزب مسؤوليات عديدة، وكان محامياً لامعاً.
(5): الجزء الثالث من مجلد «من الجعبة» صفحة: 35-36.
(6): الجزء الثالث من مجلد «من الجعبة» صفحة: 38-39.
***
ملاحظة:
من رفقاء تلكلخ الذين عرفتهم جيداً: الرفيق أكرم دندشي الذي كان تولى في الحزب مسؤوليات محلية ومركزية، عقيلته الرفيقة ميمنة التي كان لها دورها اللافت في متابعة الرفقاء الجرحى والشهداء خاصة في الأحداث اللبنانية. كذلك الرفيق المربي عبدالله دندشي وعقيلته الرفيقة شراخب.