العراق … انتخاب المصير الذاتي ووجه المنطقة
د. أمين محمد حطيط
عندما احتلت أميركا العراق بذرائع وحجج واهية كاذبة، كانت تبتغي إكمال الطوق حول إيران من الغرب بعدما كانت بدأته من الشرق قبل عامين عندما احتلت أفغانستان، ومحاصرة سورية لإسقاطها من غير حاجة إلى حرب واحتلال مباشر، وأخيراً إن لم يكن أولاً الإجهاز على دولة عربية تتمتع بجغرافيا سياسية مميزة جعلت منها مركز ثقل استراتيجياً في المنطقة كلها. أرادت أميركا ذلك لتشق الطريق أمام إقامة الشرق الأوسط الأميركي الذي يوكل إلى «إسرائيل» أمر إدارته، مع إعطاء بعض فتات لـ»منطومة حرّاس المصالح الغربية « في الشرق الأوسط، تلك المنظومة القائمة على فوهات آبار النفط العربي في الخليج بقيادة سعودية .
لتلك الأهداف، خاصة الأخير منها، فكك الاحتلال الجيش العراقي وأذكى الصراعات الطائفية وأدخل الإرهاب «القاعدي» الى العراق بغية الفتك بكيانه وطمس هويته وتدمير مقومات الدولة فيه، ثم ومن خلال ما أسمي «عملية سياسية» وضع للعراق دستوراً ينقله من الدولة البسيطة الواحدة الموحدة، الى الدولة الفيدرالية القائمة على المحافظات والأقاليم والمنفتحة على إمكان التقسيم بالكونفيدرالية المقنعة، وظهر أحد هذه الأقاليم – الإقليم الكردي في الشمال – ليمارس واقعياً سياسة تظهره كأنّه دولة مستقلة لها علاقاتها الخارجية الذاتية وتملك الثروات الطبيعية القائمة فيها بعيداً عن قرار الحكومة المركزية وتوجهاتها، مع طموح أو تهديد يومي بالانفصال تماماً عن الدولة وإعلان الدولة المستقلة التامة. أما وسط العراق ذو الغالبية العربية السنية فتحول الى مرتع للعنف والإرهاب وخرجت أجزاء كبيرة منه على سلطة الدولة المركزية بعدما لجأ إليه رافضو هذه السلطة والمتنكرين للصيغة الجديدة للحكم، والأخطر كان تفشي ظاهرة الإرهاب فيها عبر انتشار «تنظيم القاعدة الإرهابية» بتفرعاتها المتعددة، خاصة ما يسمى «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الإسلامية» داعش ، وما يقال عن دخول «جبهة النصرة» إليها، وقد تشكلت هذه «الجبهة» للقيام بالاعمال الإرهابية في سورية.
أما المشهد المثير للقلق بما يعادل أو يفوق ما تقدم فهو مشهد السلطة المركزية ذاتها، ويمكن وصفها بسلطة الشلل والتعطيل الذاتي، سلطة وزعت مراكز المسؤولية أو مناصب الدولة الثلاثة الأولى رئاسة الجمهورية والوزراء ومجلس النواب على المذاهب والأعراق، وتشكلت فيها الحكومة محاصصة بين جميع الطوائف ومعظم الأحزاب والتيارات والمكوّنات السياسية من دون أن تتشكل أكثرية تحكم ومعارضة تراقب، ما أدى الى شلل عمل الحكومة بشكل كبير، فبعدما تأخر تشكيلها شهوراً طويلة تعذّر اكتمالها، كما عجزت عن تنفيذ الكثير من المهمّات المنتظرة من الحكومة الوطنية عادة.
هذا الواقع جعل الجميع متبرمين منه ورافضين استمراره، ويستوي في ذلك من دخل السلطة ومارسها أو بقي خارجها ومن قبل بصيغة النظام المستحدث أو من رفضه كلياً أو جزئياً، حتى بات الجميع يرفع شعار التغيير، الى حد يمكن القول إن الخلاف بين العراقييين بات قائماً على كل شيء تقريباً، لكنهم متفقون على مبدأ التغيير ثم يختلفون على اتجاه التغيير ومداه، وهنا يمكن التمييز بين تيارات خمسة متفاوتة الحجم والأهمية تتصارع على الأرض العراقية وترى في الانتخابات التي نفذت بالأمس فرصة لإحداث التغيير المنشود، وكل تيار يسعى الى تحقيق ما يأمل منها على النحو الآتي:
1 تيار «سلطة الأكثرية» يقوده رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي ويطمح عبر الانتخابات الى تشكل «أكثرية سياسية وطنية»، ينضوي فيه ممثلون من الفئات والمذاهب والأعراق كلّها التي تؤمن بوحدة العراق وسيادة الدستور والقانون، ورفض إقامة «سلطة الكل» لأنها سلطة التعطيل واندثار الدولة .
2 تيار «التغيير الغامض « وتقوده مكوّنات سياسية كانت متحالفة مع التيار الأول في السابق وانفصلت عنه لدوافع شخصية وسياسية، وهي تتمسك بالنظام الذي اعتمد بعد الاحتلال، لكنها ترفض إدارة الدولة بالطريقة التي تمت حتى الآن، وتعمل على تشكيل أوسع مروحة من القوى الوطنية العراقية وفقاً لبرنامج لا يبدو أنه واضح بما فيه الكفاية، لكنها تتمسك بذهنية تقاسم السلطة على الأسس القائمة راهناً.
3 تيار «العودة الى الماضي» ويقوم على رفض النظام القائم برمته، والعمل على تغييره في اتجاه ما كان قائماً قبله من دون ان يكون في ذلك دعوة إلى إعادة إنتاج ديكتاورية الشخص، لكن مع التمسك بشعارات قومية ويسارية وعلمانية . ويتوسل هذا التيار العمل السياسي العلني المدعوم بقدر محدود من العمل الميداني الإزعاجي.
4 تيار «الفوضى والهدم الإرهابي» وتمثله عصابات «القاعدة» وتفرعاتها من داعش والنصرة وسواها، وهذا التيار يرفض أصلاً الدولة المدنية والعمل السياسي ويزعم أنه يريد إقامة نظام الخلافة الإسلامية ويتوسل العنف والإرهاب في سبيل ذلك .
5 تيار انفصالي مضمر، ويسعى الى تفكيك العراق وإقامة الكيانات المستقلة بدءاً باستقلال إقليم الأكراد في العراق من دون ان يبدي نية واضحة باللجوء إلى العنف والقوة لتحقيق أهدافه .
أما مواقف هذه التيارات من الانتخابات التي جرت فهي على هذا النحو:
– التيار الاول، هو تيار مدني متدين ذو اغلبية عربية إسلامية شيعية، يرى أن السبيل الوحيد لتحقيق استقرار العراق وتثبيت وحدته وأمنه واستجماع القوة التي تمكنه من احتلال موقعه المناسب لجغرافيته السياسية، هو العملية السياسية الديمقراطية التي تؤدي الى تشكيل الأغلبية السياسية الوطنية المتعددة المصادر الدينية والعرقية، المتوحدة التوجهات السياسية، ولا يكون ذلك إلا بانتخابات حرة تفرز هذه الأغلبية، لذلك يتمسك بالانتخابات كسبيل وحيد للانقاذ.
– أما التيار الثاني، وهو تيار مدني ديني ذو اغلبية عربية إسلامية شيعية، فيتمسك بالعملية السياسية وينخرط فيها بقوة عبر المشاركة في الانتخابات لكنه يعمل على تغيير المسؤولين السابقين وتطوير نهج الحكم، مع المحافظة على وحدة الدولة وانفتاح على تعديل دستورها بما يحقق ضمانات أكثر لهذه الوحدة .
– التيار الثالث، وهو تيار مركب متعدد المصدر، ذو أغلبية عربية سنية، لا يرى أن العملية السياسية كافية وحدها لتحقيق أهدافه السياسية، لذلك لا يرفض دخول الانتخابات كن لا يعوّل عليها كفاية ويرى أن الضغط الميداني للتغيير لا بد منه، كما يرى ان الاتكاء على دول الإقليم القريبة أمر لا مفر منه لتحقيق أهدافه .
– التيار الرابع، وهو تيار سلفي أصولي متطرف، بمجمله من العرب السنة من عراقيين وغير عراقيين، يرفض العملية السياسية ويعمل على تعطيلها بأي شكل من الأشكال ويتوسل العنف والإرهاب طريقاً وحيداً في سبيل تنفيذ ما يصبو إليه .
– التيار الخامس، وهو منتشر فروعاً في جميع الطوائف والمذاهب من غير لقاء بينها، والأبرز فيها هم جماعات كردية ترى أن وحدة العراق أمر يصعب المحافظة عليه، وأن الأسلم هو تحقيق الانفصال والتقسيم السلمي الذي يوفر إراقة الدماء، ويرى في الانتخابات سبيلاً إلى تشكيل أكثريات تؤيد الحركة الانفصالية أو الكونفيدرالية.
في ظل هذه التيارات المتصارعة المتباعدة الأهواء يجد العراق نفسه اليوم أمام مفترق طرق خطير سيحدد مصيره ومساره وموقعه العام على الخريطة الاستراتيجية للمنطقة، كما يرخي بتداعياته على المنطقة أيضاً. ويبدو أن الصراع الفعلي سيكون بين دعاة التغيير مع التمسك بوحدة العراق والتمسك بالنظام القائم وتطويره نحو الفاعلية والقوة، ودعاة التغير نحو العودة إلى الماضي أو الانفصال والتقسيم. وتبدو مرتفعة حظوظ من يتمسك بوحدة العراق ويطمح الى إقامة العراق القوي المبني على دولة القانون، والمستعد للانخراط في تحالفات إقليمية لا تناسب التيارات السلفية أو مجلس التعاون الخليجي وعدم السماح بعودة العراق الى الوراء مثلما يشتهي التيار الثالث، من دون التقليل من أخطار نزعة الفوضى أو النزعات الانفصالية .
نظراً إلى ذلك، لا تنحصر الانتخابات العراقية آثاراً في الشأن الداخلي فحسب، بل يتعدى أثرها الى المنطقة كلها وهي مشتعلة بالنار. والسؤال المطروح: هل يجهز العراق على الهدف الثالث من أهداف الاحتلال ويستعيد قوته، خاصة بعدما خرج الاحتلال منه وفك الطوق عن إيران وسقط العدوان على سورية وبدأ بالتراجع؟ إن نجاح الوحدويين دعاة العراق القوي سيكون في مصلحة المنطقة واستقرارها بالتأكيد، والأمر على عكس ذلك إن فشلوا ؟
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية