أولى

تدمير لبنان مصلحة استراتيجية «إسرائيلية» بامتياز

 سمير جبور*

من الصعب الفصل بين المأزق الاستراتيجي الذي تواجهه «إسرائيل» وعملية تدمير لبنان. ومن تجليات هذا المأزق عجزها عن التعامل مع المقاومة بالطرق التقليدية، سواء في لبنان أو في قطاع غزة، مما أدّى إلى تراجع قدرتها الردعية وعجزها عن الاجتياحات البرية لحسم حروبها. وهذا الوضع سائد منذ حرب تموز 2006 ومروراً بالحروب التي شنّتها «إسرائيل» على قطاع غزة التي عجزت خلالها عن حسم نتائج تلك الحروب بواسطة الغزو البري. ولما كانت «إسرائيل» عاجزة عن تدمير القدرة العسكرية لحزب الله، التجأت إلى العمل على زعزعة لبنان من الداخل وتدمير بنيته التحتية، كما هدّد قادة «إسرائيل» مراراً، مستغلين خلل نظامه الطائفي وفساد أمراء الطوائف.

كما أنّ «إسرائيل» تشعر بأنها تتمتع بيد طليقة لجهة استخدام آليات تدمير لبنان بعد انهيار النظام العربي الذي يجري الآن تدمير بعض أركانه (سورية والعراق وليبيا إلخ…)، ناهيك بأنّ البعض الآخر جنح نحو التطبيع مع «إسرائيل» متخلياً عن التضامن العربي والقضية الفلسطينية.

إنّ ما يشهده لبنان اليوم من انهيار شبه كامل، وانحطاط على مختلف الصعد: سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ومالياً، ليس وليد الساعة، وإنما هو نتيجة مسار طويل متعدّد الحلقات والمراحل على امتداد عقود طويلة… وهنا لا بدّ من صحوة لحقيقة ما يجري في بلاد الأرز، والعوامل التي أدّت بلبنان إلى هذا الحضيض. وما يمرّ به لبنان حالياً من هبوط إلى أسفل الدركات، إنما هو أبعد من فساد قادته، وعقم النظام الطائفي الذي لازم الصيغة اللبنانية منذ ميثاق 1943. فهذا الوضع قائم منذ تأسيس لبنان وانسلاخه عن سورية الكبرى. ورغم ذلك، شهد لبنان فترات من الازدهار لدرجة أنه أصبح خلال حقبة زمنية قصيرة منارةً للوطن العربي، لا سيما خلال عقد ما قبل الحرب الأهلية في العام 1975. فما كان سبب ذلك الاستقرار والازدهار؟ وما الذي تغيّر؟

هناك أسباب عديدة منها إقليمية (الدول العربية كانت ضامنة لسلامة أراضي لبنان. ودولياً وفرت الدول العظمى الحماية للبنان). بيد أنّ السبب الرئيسي هو أنّ أصابع «إسرائيل» الخفية التي تحرك الأحداث في لبنان والمنطقة كانت منصرفة آنذاك الى معالجة نتائج الحرب الإحتلالية ـ الإحلالية التي شنّتها على الدول العربية في سنة 1967، علماً انّ اعتداءاتها وتحرّشاتها ضدّ لبنان لم تتوقف.

 آليات تدمير لبنان

انتهجت «إسرائيل» بعض الاستراتيجيات والأساليب التي حرمت لبنان من الاستقرار، وعرّضته لهزات موسمية سعياً وراء تدميره وانهياره حتى وصل الى هذا الوضع الخطير. ويمكن تلخيص هذه الاستراتيجيات كما يلي:

أولاً: العمل العسكري: لم تتوقف «إسرائيل» عن شنّ اعتداءاتها وحروبها على لبنان منذ نشوئها لكي تخلق واقعاً حدودياً دائماً مشحوناً بالتوتر، ليسمح لها بالتدخل للتأثير على سير الأمور بواسطة الاعتداءات المتكررة والحروب المباشرة، أو الوقوف من وراء الحروب الأهلية بالوكالة (مثل الحرب الأهلية سنة 1975).

ويضيق المجال هنا للتوقف عند سرد هذه العمليات العسكرية والحروب التي شنتها «إسرائيل» ضدّ لبنان. وهذه تحتاج الى مجلد كثيف. وتكفي الإشارة إلى عملية الليطاني. فقبل 43 عاماً اجتاح الجيش «الإسرائيلي» جنوب لبنان في أول عملية توغّل كبيرة منذ سنة 1948. كان هذا الاجتياح بمثابة تحضير لغزو لبنان في العام 1982 حين غزا الجيش «الإسرائيلي» ثلثي لبنان واحتلّ العاصمة بيروت. ولم يكن في نيته الانسحاب الا بعد فرض «دولة مسيحية» تتحالف مع «إسرائيل» وإنشاء نظام يوقع معاهدة سلام معها بشروطها الإكراهية. إلا انّ المقاومة اللبنانية بكلّ أطيافها حرمته من هذا المسعى وانسحب جيش الاحتلال منكفئاً في سنة 2000 تحت ضربات هذه المقاومة التي نشأت بفعل الاحتلال «الإسرائيلي» وتسلّط «جيش لبنان الجنوبي» بقيادة سعد حداد والذي أنشأته «إسرائيل» من أجل شرذمة الجيش اللبناني وزرع بذور الانقسام بين الطوائف اللبنانية.

 ثانياً: الحرب الاقتصادية

من أجل تشكيل ضغط على حزب الله وتحميله مسؤولية انهيار لبنان، لجأت «إسرائيل» الى المساهمة الفعّالة في شن حرب اقتصادية على لبنان وافقار شعبه وتجويعه، كما هو الوضع الآن. وهي قادرة على ذلك باستغلال نفوذ الحركة الصهيونية لدى المؤسسات المالية الدولية التي تمنح القروض مثل البنك الدولي مقابل إملاء شروط تعجيزية. وتسعى إسرائيل إلى حرمان لبنان وغيره من الدول العربية من الإفادة من هذه التسهيلات المالية..

والمعروف أنّ التحكم في عمليات البنك الدولي تؤول إلى منعه من المساهمة في عملية الإنقاذ وهذا يؤدّي إلى دمار لبنان وانهياره اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. علاوة على نضوب مخزون العملة الصعبة التي تستخدم في شراء المواد الغذائية والحاجات الطبية وغيرها. وإذا ضغطت «إسرائيل» على أميركا لفرض «قانون قيصر» على لبنان، كما فعلت في سورية، فإنّ وضعه سيزداد سوءاً.

علاوة على ذلك، في ظلّ الركود الاقتصادي وتوقف تدفق رؤوس الأموال تواجه الحكومة اللبنانية ضغوطاً متزايدة للحدّ من العجز الهائل في الميزانية. وبذلك يتسارع الانهيار المالي وتفقد الليرة اللبنانية قيمتها بنحو أكثر من 80 بالمئة. وبذلك يتفاقم الجوع وانتشار الأمراض وتعمّ الفوضى وربما تنحدر الى حرب أهلية.

ثالثاً: تدمير الدول العربية المحيطة

مرة أخرى تشعر «إسرائيل» بحرية التصرف في المنطقة بسبب غياب من يردعها أو يحاسبها بعد محاولات تدمير دول المحيط في أعقاب ما يسمّى «ثورات الربيع العربي». فسورية الجارة المباشرة للبنان تخضع الآن لعمليات تخريب وتدمير بواسطة منظمات تموّلها الدول الغربية وتتولى «إسرائيل» تدريبها ومدّها بالسلاح. وهذا ما يجري في العراق وليبيا إلخ… كما أنّ أيادي مصر والأردن مكبّلة بمعاهدات السلام (الإذعان) وهي غير راغبة وغير قادرة على التصدي لـ «إسرائيل». وهكذا ترك مصير لبنان تحت رحمة الأميركيين والإسرائيليين.

رابعاً: عمليات التطبيع

استطاعت «إسرائيل» إقناع بعض الدول العربية لا سيما دول الخليج بأنّ إيران تهدّد وجود هذه الدول العربية، وأنّ «إسرائيل» بتحالفها مع الدول الغربية كفيلة بدرء الخطر الإيراني. ومن هنا نشأ عداء هذه الدول للمقاومة اللبنانية وفرض المقاطعة على لبنان مالياً وسياحياً واقتصادياً لدرجة تجويع شعبه وتعطيشه وإجباره على مقاومة نفوذ حزب الله، مع العلم أنّ هذا خارج عن قدرته. وقد استغلت «إسرائيل» أوهام بعض دول الخليج ومخاوفها المبالغ فيها من النفوذ الإيراني لتجرّها الى عقد صفقات تطبيع والاصطفاف معها في عدائها للمقاومة على حساب مصالح الشعب اللبناني.

أصوات «إسرائيلية» تدعو إلى غزو لبنان مجدّداً

لا يخفي «الإسرائيليون» نواياهم ومصالحهم إزاء تدمير لبنان، فهم يفترضون أنّ تقويض لبنان من الداخل وانهيار بنيته التحتية قد يؤولان إلى تطويق المقاومة اللبنانية وتجريدها من قواعدها الشعبية وتأليب الشعب اللبناني على حزب الله بالذات، وتحميله مسؤولية ما تؤول إليه الأوضاع في لبنان، وكما صرح رئيس مجلس الأمن القومي «الإسرائيلي» السابق، الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند، إنّ «معضلة إسرائيل اليوم تكمن بحاجتها لاختيار أحد ثلاثة بدائل: جعل دولة لبنان تنهار داخل نفسها، الأمر الذي سيضعف حزب الله في النهاية؛ استغلال إطلاق حزب الله للقذائف الصاروخية من أجل توجيه ضربات موجعة للبنى التحتية للبنان لدرجة توجيه غضب اللبنانيين نحو حزب الله. أما الخيار الثالث فهو الانضمام إلى الدعوات من داخل لبنان للغرب طلباً لمساعدات اقتصادية عاجلة، ولكن الاهتمام بأن تمنح الدول الغربية، وفرنسا والولايات المتحدة بالأساس، المساعدات ليس من خلال إصلاحات مالية فقط وإنما بتقليص قدرات حزب الله العسكرية أيضاً. (القدس العربي»، 8/8/2021).

أما افرايم عنبار، رئيس معهد القدس للاستراتيجيا والأمن، يتحدث عن ضرورة قيام «إسرائيل» بتوجيه ضربة إلى المشروع النووي الإيراني على أن يسبق ذلك قيام «إسرائيل» بغزو لبنان اذ يقول: «إنّ على الجيش الإسرائيلي التخطيط لعملية استباقية في الشمال، في الأساس للقضاء على تهديد الصواريخ للمنشآت الاستراتيجية في البلد قبل معالجة الموضوع النووي..» وبناء عليه لا بدّ من «غزو لبنان لتنظيف الجارة الشمالية من الصواريخ وهذا يتطلب تحضيرات دقيقة». وناشد عنبار رئيس الأركان أفيف كوخافي بأن يتعلم «كيفية تحقيق النصر وإجراء التغييرات المطلوبة من أجل تنفيذ العقيدة القتالية الجديدة. الزيادات في ميزانية وزارة الدفاع يجب أن توجَّه أيضاً إلى المهمات في لبنان والدفاع عن الجبهة الداخلية في الشمال» (يسرائيل هيوم»، 11/8/2021).

وأضاف عنبار انه «ينبغي على اسرائيل خلق مناخ ملائم لشن حرب استباقية في لبنان في أقرب وقت. انزلاق لبنان إلى الفوضى وإطلاق الصواريخ المتقطع من لبنان يشكلان فرصة. يجب الربط جيداً بين لبنان وحزب الله من جهة والعدوانية الإيرانية من جهة أُخرى في الوعي الدولي والوعي الإسرائيلي. من المحتمل أنّ العقبات التي تراكمها إيران في نقاشات العودة إلى الاتفاق النووي 2015 ستعطي المزيد من حرية العمل لإسرائيل».

من المؤسف حقاً أن نشهد الدول العربية لا سيما دول الخليج (والسعودية تحديداً) تتخلى عن لبنان وتتركه لقمة سائغة للأطماع الصهيونية. فما هي مصلحة هذه الدول في تدمير لبنان؟ وماذا فعل لبنان لتدمّروه؟ ألم يكن موئلاً لكم ترسلون مرضاكم الى مستشفياته وطلابكم الى جامعاته وسائيحيكم الى مصايفه وتودعون أموالكم في مصارفه وتشحنون بضائعكم عبر موانئه وتستوردون منتجات صناعته الصغيرة المحلية بأرخص الأثمان…؟

بالله عليكم عودوا إلى ضمائركم واسألوا أنفسكم ما هي مصلحتكم في السماح المساهمة في تدمير لبنان الذي كان دائماً منارة للعرب أجمعين وملجأ للمضطهدين وعنواناً للشعراء والأدباء اللامعين. وعليكم أن تدركوا أنّ لبنان ليس حزب الله بل إنّ لبنان هو الحضارة ومركز الإشعاع والعلم في هذه البقعة من الأرض. وصاحب هذه السطور يناشد جميع القادة اللبنانيين من دون استثناء التحلي بالوعي والنظر الى الأمور بعيون ثاقبة والاتعاظ بما جرى لشعب فلسطين بكلّ فئاته، اذ أنّ ما جرى لفلسطين قد يصيب لبنان ويا حبّذا لو ترجعون إلى الوثائق الدولية لتدركوا ماذا تخطط الصهيونية للبنان! فهذه لها أطماعها التي تسعى الى تحقيقها بالدرجة الأولى ثم تتخلى عن المتعاونين معها بسهولة…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب فلسطيني من الجليل الغربي مقيم في كندا، واختصاصي بارز بالعبرية، نال درجة الماجستير في التاريخ من جامعة القديس يوسف في بيروت. وكان رئيس دائرة الترجمة في مؤسّسة الدراسات الفلسطينية في بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى