أولى

الراعي والقطيع…!

 د. عدنان منصور _

آن الأوان للراعي أن يجمع قطيعه الوديع، بعدما قام عمداً بتعطيشه، وتجويعه. فهو الآن وقد رأى أنّ الوقت قد حان، مستعدّ وحاضر بكلّ جهوزية وحميّة، ليأخذه الى المعلف ويقدّم له كلّ ما يملأ جوفه من العلف، يداعبه، يربّت على رأسه، ولا يتردّد بأخذ صورة تذكارية مع الكراز والحملان.

 يأتي القطيع مسرعاً شاكراً، ليأكل بنهم وشهية، بما يغدق عليه الراعي من كرم وسخاء، وقد نسي القطيع المسكين، أنّ الراعي كان وراء تجويعه وتعطيشه.

 لا يدري المغفل لجهله وحماقته، أنّ ما يقدّمه الراعي له من علف، ليس إلا لأجل قصير، قبل أن يُهيّئه، ويحضره، ويجرّه الى الذبح.

 ما أشبه الراعي بالزعيم والسياسي في لبنان، عندما يتعاطى مع الحملان. فهو يجوّع شعبه، يستغله، ينهبه، يذله، يسرقه في وضح النهار، وبعد أربع سنوات، تثور «حميته» كالبركان، وتتجلى «نخوته»، ويستيقظ «ضميره» الميت في داخله فجأة، ويتفجر في شرايينه الجافة، «الإحساس» و»الشرف»، و»النخوة»، و»الإنسانية»، و»المسؤولية»، فيتقرّب منه بخبث شديد، ويحتضنه بخبث أشدّ، ثم يسخو عليه بفيض من ابتساماته المقززة، ووعوده الكاذبة، وشعاراته المنمّقة البراقة، المختارة بعناية، ودقة، وببرامجه المطعّمة بالخطابات التافهة التي تثير الغثيان في النفس. وبعد ذلك يوزع «كرمه» و»مشاعره» الفياضة على المقهورين، والمسحوقين، والجائعين، بسلّات غذائية، تحتوي على سلع تعبّر عن مدى التعاطي القبيح والحقير، والاستخفاف بكرامة المواطن وإذلال، للنفس البشرية.

بهذه السلة، وبـ «قسائم» بنزين ومازوت، وببطاقات تموين للمحظوظين، وبمولد كهربائي من هنا، ومضخة ماء من هناك، أو بدفع فاتورة طبيب او دواء، او اشتراك في مولد كهربائي طيلة شهر رمضان، أو بمبلغ زهيد من المال. يقوم الزعيم السياسي، والرأسمالي المتوحش، المنتفخ بطنه بالمال الحرام، بشراء أبناء قرية بأكملها، ويشتري معها الناخب الأحمق المغفل، المغلوب على أمره، في سوق العبيد، بعد أن يدخله في مزاد شراء الاصوات، يذله، يستعبده، وبعد ذلك يصادره لفترة حدّها الأدنى أربع سنوات.

 في الربيع، يحقق الراعي ما خططه ورسمه من أهداف، ويظفر بـ «ثقة» الشعب وحبه وولائه له، بعد أن يكون قد اشترى ما اشتراه من كبوش البشر، ليفرزهم بعد ذلك، كي يحتفظ بالحملان الجدد الذين ولدوا للتوّ وأبصروا الحياة، يضعهم في قاعة الانتظار، وبهو الاحتياط، حتى إذا ما جاء الموعد بعد أربع سنوات، تتحرّك همّته مجدّداً، يعلفهم من جديد، يسدّ أفواههم على عجل، وبعد ذلك، يحضرهم ويأخذهم الى المسلخ مجدًداً! بذلك تستمرّ دورة الحياة بين الرعاة والقطعان، دون انقطاع. فإذا ما رحل الراعي، حلّ مكانه على الفور الوريث الذي أتقن جيداً دوره، وكان الأمين على سلوك، ونهج، وأخلاق والده «العظيمة»، والتلميذ النجيب له.

يموت القطيع، ويأتي مكانه كبش وراء كبش. وما أكثر الكبوش من البشر في بلد، يسلم فيه العبد رقبته طوعاً لجزاره، راضياً بوضعه، جاعلاً نفسه مطية، راضخاً لذله متأقلما مع قهره، يفعل فيه ما يشاء، متقبّلاً ذله، وعبوديته واستحماره.

 الفرق بين القطعان وبعض أشباه البشر، هو أنّ كلّ كبش منها منزوع الإرادة، لا يعرف مصيره المحتوم ويجهل ما ينتظره على أيدي راعيه، لكن أن يتنازل أشباه البشر، عن حقهم وإرادتهم ويعرفون مسبقاً حق المعرفة الأكيدة ما يبيّته الزعيم والسياسي لهم في مسلخ الاقتراع، ومدى حجم كذبه ونفاقه، ودجله، ثم يهللون له، ويصفقون له، ويبجّلونه، ويهتفون باسمه وحياته، ويستميتون في الدفاع من أجله، فهؤلاء ليسوا من أبناء الحياة التي هي وقفة عز وإباء، ولا يستحقونها أبداً. فمكانهم العيش في القاع، وداخل الحفر، لطالما أنهم جعلوا أنفسهم طوعاً عبيداً، يسخرون حياتهم الذليلة في خدمة أسيادهم، وإقطاعييهم، ومذليهم، وقطاع رقابهم، وأرزاقهم، ومستقبلهم.

بذلك تصبح العبودية متأصّلة في عقولهم، متجذرة في تفكيرهم وسلوكهم، وحاضرة بكلّ قوة في حياتهم، إذ يعيشون عبيداً، ويموتون عبيداً، ويورثون العبودية لأبنائهم، ليكون لهم من بعدهم، مكان دائم في قافلة العبيد، لا يغادرونها، ولا يحيدون عنها!

الشعب الذي له صفات الغاز القابل للضغط، والتسييل والاحتراق يستحيل عليه العيش بحرية وكرامة، وتحقيق الحدّ الأدنى من متطلبات حياته، طالما هو راضٍ بالضغط، والتسييل والاحتراق.

 هناك من اللبنانيين، من أرادوا أن يكونوا نموذجاً للذلّ، خانعين للحاكم والزعيم، والسياسي، والمسؤول، وارتضوا أن يكونوا لهم عبيداً، وما بدّلوا تبديلاً، واكتفوا بالفتات وإنْ كان قليلاً.

أيها المواطن الحر، قم وانتفض، ولو لمرة واحدة، وصفّي حسابك في صندوق الاقتراع مع مَن سرقك، ونهبك، وجوّعك، وأفقرك، وعطل القوانين التي تحميك، وهرّب أمواله وغسلها. فأنت تعرفهم واحداً واحداً، وإنْ تلطوا خلف الشعارات البراقة الكاذبة.

انتخب مَن كان الى جانبك يدافع عن حقوقك، ويواجه الفساد والمفسدين، ويحمي بيتك، ووطنك، وشعبك، وأرضك، وسيادتك، فعلاً لا قولاً، صدقاً لا نفاقاً. فأنت أمام الله وأمام ضميرك. فإذا ما حكمت عقلك ستأتي بمجلس يعبّر عن إرادتك، ويصون حقوقك، ومستقبلك ومستقبل أولادك.

حاسب من أوصلك الى هذا الدرك الأسفل، ومن أوصل البلد بأكمله الى الحضيض، يتندّر العالم به وبحكامه، وزعمائه، ومسؤوليه، ومؤسساته.

تحرّر من الزعيم الإقطاعي، وشبكة الاحتكارات، ودكتاتورية حيتان المال، والشركات الحصرية، قم ودُس بقدمك على التوريث السياسي ومورثيه، وانتفض في وجه المرشح الفاسد، وانتخب الأصلح، لأنّ صوتك إذا ما صبّ لمصلحة فاسد في اللائحة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فإنك بذلك، تساهم في تعزيز الفساد، وتعطيه شرعية ليقضي على آمالك وآمال الشعب. اختر لائحتك غير المطعّمة والمدسوسة بلصّ، أو ناهب، استغلّ مركزه في سرقة الشعب والمال العام.

 أيها الناخب الحر! إنك تعرفهم واحداً واحداً، فمن سوء حظهم أنّ بلدنا صغير، فلا مجال لهم للاختباء من سجل حياتهم، وسلوكهم «الباهر»، وتاريخهم «الحافل» وسيرتهم السوداء، فواجههم يوم 15 أيار ليكون لك ولأولادك في ما بعد المكان اللائق تحت الشمس.

إنْ لم تفعل، فأنت المسؤول، وإلا، لا أمل ولا رجاء منك بعد اليوم للقيام بالتغيير والمحاسبة، وبناء دولة المواطنة تضمن العدالة الحقيقية، وكرامة الانسان!

القرار بيدك، وإلا بعد 15 أيار، لا تشكو ولا تتذمّر، ولا تندّد ولا تغضب، لا تشتم ولا تلعن، إذا ما ساد في بلد حاكم جائر، وسياسي مراوغ، ومسؤول مقاول، ومشرّع قاعس، ومواطن جاهل، وقضاء ينخره أكثر من فاسد، وحاكم لبيت المال سارق، وشعب يذلّه فاجر، وناخب يبيع صوته بعشر ثمن حمار وهو راض!

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى