«البهلوانيات» لا تفيد… ولبنان يمكنه التغلّب على الدولار!
} أحمد بهجة*
ليس هناك أيّ عامل اقتصادي حقيقي يقف وراء تحرك سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء، لا في صعوده المتوقع بعد انتهاء الانتخابات النيابية في 15 أيار الحالي حيث تخطى صباح يوم الجمعة الفائت عتبة الـ 37 ألف ليرة للدولار الواحد، ولا في هبوطه المفاجئ والكبير بعد ظهر يوم الجمعة نفسه وتراجعه إلى نحو 29 ألف ليرة ثم إلى 27 ألفاً يوم السبت الفائت.
يذكر الجميع أنّ سعر الصرف كان في مطلع العام الحالي قد تخطى عتبة الـ 33 ألف ليرة، وكانت معطيات سوق القطع تدلّ إلى أن لا سقف لسعر صرف الدولار وسيواصل طريقه صعوداً، لأنّ السلطة السياسية المعنية بالأمر (أيّ الحكومة) لم تتخذ أيّ إجراء عملي منذ تشكيلها من أجل حماية العملة الوطنية وبالتالي تحقيق حدّ أدنى من الاستقرار النقدي ومنع التأثير الكارثي للتقلبات الدراماتيكية في أسعار الصرف على ذوي الدخل المحدود، وقد باتت الغالبية الكبرى من اللبنانيين من ذوي الدخل المحدود، حيث هناك 85 في المئة من اللبنانيين يتقاضون رواتبهم ومداخيلهم بالليرة اللبنانية التي خسرت أكثر من 90 في المئة من قيمتها.
لكن اتفاقاً حصل في الشهر الأول من العام الحالي بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وقضى الاتفاق بأن يستمرّ المصرف المركزي بالتدخل في سوق القطع حتى موعد الانتخابات النيابية في 15 أيار، وأدّى ذلك إلى تراجع الدولار خلال أيام معدودة أكثر من 13 ألف ليرة ليصل إلى نحو 20 ألف ليرة، قبل أن يُعاود الارتفاع إلى حوالى 24 ألفاً، حيث استقرّ لفترة ارتفع بعدها إلى نحو 27 ألفاً وأيضاً استقرّ لفترة، ما جعل أسعار السلع تستقرّ نوعاً ما عند حدود معينة رغم أنها بقيت مرتفعة جداً قياساً إلى تدنّي مداخيل اللبنانيين.
وما أن وصلنا إلى الانتخابات، وقبل أن تنتهي عمليات فرز الأصوات مساء الأحد حتى عاد سعر صرف الدولار إلى الارتفاع بل إلى القفز صعوداً حيث سجل خلال أربعة أيام فقط زيادة قدرها عشرة آلاف ليرة، إذ وصل سعر الصرف صباح الجمعة إلى أكثر من 37 ألف ليرة، ولحق ذلك ارتفاع جنوني في أسعار السلع كلها خاصة أنّ التجار بدأوا يُسعّرون البضائع على أساس الدولار بأربعين ألف ليرة.
ومن دون مقدّمات ولا تفسيرات وجّه «الحاكم» بياناً إلى جميع حاملي الليرة اللبنانية من مواطنين ومؤسّسات ويريدون تحويلها إلى الدولار الأميركي، التقدّم بهذه الطلبات إلى المصارف اللبنانية ابتداءً من اليوم الاثنين، وذلك على سعر منصة صيرفة، على أن تتمّ تلبية هذه الطلبات كاملة في غضون 24 ساعة».
وألحق سلامة هذا البيان بتعميم ثانٍ وجهه إلى المصارف يُلزمها فيه، ابتداءً من اليوم الإثنين، وذلك لثلاثة أيام متتالية، أن تُبقي فروعها وصناديقها مفتوحة يومياً حتى الساعة السادسة مساءً لتلبية طلبات المواطنين من شراء الدولارات على سعر صيرفة لمن سلّم الليرات اللبنانية، وكذلك دفع معاشات الموظفين في القطاع العام بالدولار أيضاً على سعر المنصة.
بمجرّد صدور هذه التعليمات تدحرج الدولار نزولاً بطريقة دراماتيكية، وانخفض سعر الصرف يوم الجمعة سبعة آلاف ليرة ووصل الانخفاض يوم السبت إلى عشرة آلاف…
الأكيد أنّ انخفاض سعر صرف الدولار يصبّ في مصلحة الغالبية العظمى من اللبنانيين، شرط أنّ يتبع ذلك انخفاض ملموس في أسعار السلع الأساسية (الخبز والدواء والمحروقات والسلة الغذائية المتعارف عليها عالمياً بأن لا غنى عنها لأيّ أسرة)، وأيضاً أن يحصل استقرار نسبي مستدام سواء في أسعار الصرف أو في أسعار السلع.
لكن… كيف يمكن أن يحصل ذلك طالما أنّ كلّ الإجراءات المتخذة من قبل «الحاكم» ليست سوى «بهلوانيات»، وقد حصل مثلها الكثير في السابق، حيث نتذكّر كيف انخفض سعر الصرف من 8 ألاف ليرة إلى 6 آلاف بعد تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة في تشرين الأول العام 2020، ثم خلال فترة التكليف التي استمرت نحو 9 أشهر ارتفع الدولار تدريجياً ليصل يوم اعتذاره عن عم التشكيل في تموز 2021 إلى نحو 20 ألف ليرة.
وحين تمّ تكليف الرئيس ميقاتي انخفض سعر الصرف إلى نحو 13 ألف ليرة ليعود إلى الارتفاع مجدّداً خلال فترة التكليف، ثم هبط مع إعلان تشكيل الحكومة في أيلول 2021، ولكنه لم يصمد كثيراً فعاد إلى مساره التصاعدي خاصة أنّ الحكومة لم تتخذ أيّ قرار جدي على المستوى الاقتصادي والمالي لكي تخفّف من وطأة الأزمة التي تشدّ الخناق أكثر فأكثر على رقاب اللبنانيين…
المغزى من التذكير بكلّ تلك المحطات «الدولارية» هو لفت النظر مجدّداً إلى خطورة ما يفعله «الحاكم» الذي يثبت في كلّ مرة أنه شخص غير مسؤول ولا بدّ من محاسبته على ارتكاباته بحق لبنان واللبنانيين منذ ثلاثين سنة حتى اليوم، خاصة أنه ملاحق قضائياً في دول أوروبية عديدة، وملاحَق في لبنان أيضاً حيث يتهرّب من المثول أمام القضاء، ورغم ذلك يتمّ إرجاء استدعائه إلى آذار المقبل في مفارقة غريبة عجيبة، فيما يُصار إلى إخلاء سبيل شقيقه رجا الذي ثبت في التحقيق أنه مرتكب ومذنب ومختلس ملايين الدولارات من الأموال العمومية بالشراكة مع شقيقه «الحاكم»!
أما كيف يمكن للبنانيين أن يربحوا الحرب ضدّ الدولار؟ الجواب بكلّ بساطة هو: حين تتخذ سلطاتنا العلية القرار الجريء بالاستغناء عن الدولار في مستورداتنا من الخارج، وأمامنا عروض سخية جداً لكي نستورد ما نحتاجه من قمح وأدوية ومحروقات بالليرة اللبنانية من دون الحاجة إلى إخراج أيّ دولار من البلد، وبالتالي حين يخفّ الطلب على الدولار فإنّ سعره بطبيعة الحال سوف ينخفض أكثر مما يتخيّل بعض المُنبهرين بالعملة الخضراء ويخافون من خوض هذه المواجهة لأسباب متعدّدة أغلبها يعود إلى المصالح الشخصية والخاصة لهؤلاء الخائفين…!