مقالات وآراء

إضاءات على القضيّة الفلسطينية وقائع تدعو إلى الأخذ بحتميّة انتصار القضيّة وأخرى تدفع إلى مزيد من التعثّر في مسيرة الانتصار

} د. ساسين عساف*

بعد نكبة 1948 استكمل خطّ الانحدار العربي (باستثناء الانتصار على العدوان الثلاثي 1956) وجهته بقوّة مع هزيمة الخامس من حزيران 1967 وبلغ أقصى ما يمكن بعد غياب الرئيس جمال عبد الناصر وتسلّم الرئيس أنور السادات الحكم الذي قاد تصفية المشروع الناصري التحرّري ملحقاً أبلغ الأذى بالقضيّة الفلسطينية.

هزيمة حزيران من أشدّ الهزائم العسكرية وقعاً سلبياً على القضيّة، هذا صحيح… ولكن الرئيس عبد الناصر تحمّل مسؤوليّتها وعاقب نفسه بالاستقالة… قابلته الجماهير برفضها فضاعفت من مسؤوليّته تجاه القضيّة وراح يعمل على إعادة بناء الجيش المصري والتخطيط لتعزيز الجبهة تعديلاً لموازين القوى وعودة إلى إنجاز التحرير ما أحيا الأمل مجدّداً بانتصار القضيّة التي سرعان ما انتكست في الأردن في أيلول 1970 نتيجة القتال بين الفدائيين والجيش الأردني…

جهود الرئيس عبد الناصر لإعادة بناء الجيش المصري، رغم غيابه في أيلول1970 بسبب الإرهاق الذي ألمّ به ساعياً لوقف القتال بين الإخوة، أثمرت انتصار تشرين 1973 الذي أعاد للعرب عموماً وللفلسطينيين خصوصاً ثقتهم بقدرتهم على التوحّد من أجل القضيّة (مصر، سورية، العراق، والسعودية التي بادرت إلى استخدام سلاح النفط) وعلى إلحاق الهزيمة العسكرية بإسرائيل واسترجاع الأراضي العربية المحتلّة…

ما يعنينا من نتائج ذلك الانتصار انعكاسه السلبي على القضية الفلسطينية من دون الدخول في تفاصيل ما جرى على الجبهتين المصرية والسورية وما جرى بين القيادتين من تحميل مسؤوليات. ما يعنينا هو ما أسفرت عنه ديبلوماسية كيسينجر أو سياسة “الخطوة القصيرة” التي أدّت في أيلول 1975 إلى اتّفاق سيناء الذي مهّد لاتّفاق كامب ديفيد.

هذان الإتّفاقان حيّدا مصر وألغيا دورها في قيادة المواجهة العسكرية وأسقطا لاءات الخرطوم 1967: “لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض”.

الحرب في لبنان وعليه بدءاً من العام 1973 أمّنت الغبار الكثيف لما كان يجري بين مصر و”إسرائيل” برعاية كيسينجرية.. هذه الحرب التي انخرط فيها الفلسطينيون أساءت للقضيّة من دون أن نبحث عن خلفيات ذلك التي قد يكون فيها بعض من خطأ وبعض من صواب..

غزو لبنان في العام 1982 أخرج الشهيد ياسر عرفات من بيروت إلى تونس حيث عقد في فاس مؤتمر القمّة العربية الثالث عشر في أيلول 1982 الذي أسفر عن “المشروع العربي للسّلام” المتضمّن استعداداً عربياً صريحاً لإقامة سلام مع “إسرائيل”. تأسيساً على بنود هذا المشروع أعيدت العلاقات العربية/ المصرية.

من انعكاسات هذا المشروع على القضيّة الفلسطينية إنعقاد “المجلس الوطني الفلسطيني” في الجزائر سنة 1988 تحت إسم “دورة الانتفاضة” حيث تأكّد عزم منظّمة التحرير على الوصول إلى تسوية سياسية قاعدتها القرار 242. هكذا تمّ إجهاض “إنتفاضة الحجارة”!

في بداية التسعينيات وجد العرب أنفسهم داخل ما سُمّي زوراً “عصر التسوية”، عصر الجلوس إلى طاولة المفاوضات في مدريد.

وضعت لهذه المفاوضات قواعد ثابتة، القراران 242 و338، مبدأ الأرض مقابل السلام حتّى حدود 4 حزيران 1967. هذه القواعد من منظور عربي تضمّنت اعتراف “إسرائيل” بحقّ العرب في استرجاع أراضيهم المحتلّة في حرب 1967، واعتراف “إسرائيل” بأنّها أراض محتلّة لا “مستعادة باسم الحق التاريخي”، واعتراف “إسرائيل” بأنّ مشروع “إسرائيل الكبرى” جغرافياً بات من أدبيات الصهيونية…

بعد طول مفاوضات متعدّدة وثنائية وجد الجميع أنفسهم في مسارات منحرفة عن تلك القواعد ما أدّى إلى: اتفاق أوسلو، اتفاق وادي عربة، مؤتمرات اقتصادية (أبرزها مؤتمر الدار البيضاء) وإنهاء مقاطعة “إسرائيل” وتسهيل إجراءات تطبيعية بين “إسرائيل” وغير طرف عربي.

كلّ هذه الاتفاقات والإجراءات كانت بحاجة إلى تغطية عربية شاملة فكانت قمّة بيروت في العام 2002 حيث أطلقت “المبادرة العربية للسلام” التي قابلتها “إسرائيل”، رفضاً لها، باجتياح جنين…

هذه السردية التاريخية الموجزة تخلّلتها وتلتها انتفاضات (أبرزها انتفاضة الأقصى) ومواجهات عسكرية (انتصار غزّة، سيف القدس) وتجمّعات شعبية للدفاع عن المسجد الأقصى لمنع المستوطنين من دخوله، وللدفاع عن أحياء المدينة القديمة (حيّ الشيخ جرّاح مثالاً) للحؤول دون مصادرة منازلها وطرد سكّانها ومالكيها الأصليين، ومواجهات قطعان المستوطنين المسلّحين طعناً ودهساً وقتلاً بالرّصاص ما حوّل المجتمع الإسرائيلي إلى مجتمع مذعور..

من أبرز تلك المواجهات مواجهة مسيرة الأعلام في ذكرى احتلال القدس في العام 1967 بمسيرات رفعت العلم الفلسطيني داخل فلسطين المحتلّة وفي مخيّمات الشتات.

كلّ هذه الوقائع تؤكّد اليوم كما أكّدت في محطات نضالية سابقة أنّ الشعب الفلسطيني لن يتخلّى يوماً عن حقوقه كاملة فوق أرض فلسطين.

من هنا ينشأ السؤال الآتي: هل الوقائع الراهنة وتراكم الانجازات المحقّقة تشكّل عوامل مساعدة، ولو كانت غير كافية، للثبات في خطّ المواجهة لمدى زمني غير منظور تحدّده دينامية الصراع وتبدّلات موازين القوى بغية انتصار القضيّة؟

وقائع تدعو إلى الأخذ بحتميّة انتصار القضيّة
فقدت “إسرائيل” الكثير من عناصر قوّتها:

ـ مجتمع مركّب في كيان مصطنع يخوض صراعاً وجودياً منذ إقامته فوق أرض فلسطين، وحتى الساعة لم يتمكّن من ضمان هذا الوجود في منطقة ليس هو من نسيج مجتمعاتها.

ـ مجتمع مفكّك بنيوياً بشرياً وعقائدياً.. بكلّ تناقضاته هو اليوم في مواجهة مصيرية مع نفسه.

ـ مجتمع مذعور من أيّ حرب مقبلة، فأسطورة الجيش الذي لا يُقهر انهارت أمام عيون قياداته وحكّام الكيان و”شعوبه.”

ـ مجتمع يعاني من هجرة عكسيّة واستعادة جنسيات أصلية.

تأكيدات الهجرة العكسيّة جاءت على ألسنة مسؤولين “إسرائيليين” حاليين وسابقين، عسكريين ومدنيين، وإعلاميين ومفكّرين ومؤرّخين، وهي منشورة في صحف “إسرائيلية”. كلّها عوارض مرضيّة تمثّل حالات طبيعية في مجتمع غير عضوي مكوّن من جماعات مستجلبة. (حركة الاستجلاب ضعفت لا بل توقّفت لا بل عاكستها عودة مضادّة).

في هذا السياق أوردت صحيفة “جيروزالم بوست” بتاريخ 28/4/2022 خبراً عن العودة المضادة إلى بلاد الأصل، جاء فيه: “عاد إلى روسيا خلال الشهرين الفائتين 1800 يهودي روسي بعد حصولهم على جواز سفر إسرائيلي وإقامة في فنادق”.

وتتابع الصحيفة فتؤكّد أنّ 41% من اليهود الروس المهاجرين إلى إسرائيل عادوا إلى روسيا”.

وبسبب التمييز العنصري ضدّ الفلاشا الذين لا اعتراف بيهوديّتهم باتوا يعودون إلى إثيوبيا.

وتضيف الصحيفة بلسان “زفيكا كلن” الصحافي المختصّ بشؤون الهجرة أنّ الهجرة العكسية ازدهرت في بداية الألفية الثالثة.

وتكمل الصحيفة في السياق نفسه أنّ أستاذة في جامعة حيفا إسمها ميخال أورين دعت إلى إعادة تأسيس “دولة إسرائيل” في مدينة بايروبدجيان الروسية مقرّ اليهود الرئيس.. فلاقى اقتراحها ترحيباً بين الكتّاب والمفكّرين اليساريين.

ثمّ تضيف الصحيفة: وهناك من باتوا يفكّرون في بيع بيوتهم في المستوطنات.

(هذه المعلومات مستلّة من مقال للكاتب الفلسطيني توفيق أبو شومر نشره في موقع “عربي 21” بتاريخ 11/5/2022).

مجتمع يعاني من تسلّط الحارديم (حزب شاس تحديداً).

ومن معين هذا المقال نستلّ ما ورد في الصحيفة نفسها من أنّ معظم المتنوّرين والكتّاب والمفكّرين الإسرائيليين يعتقدون أنّ استيلاء الحارديم على السلطة سوف يقوّض دولة “إسرائيل”، ومن أنّ “زفيكا كلن” يذكّر بما قاله الكاتب “الإسرائيلي” عاموس عوز في 9/5/2014 وهو الآتي: “عصابات المستوطنين الحارديم هم النازيون الجدد العبريون… وإذا لم تنشأ دولة فلسطينية الآن فستكون هنا بعد سنوات قليلة دولة عربية واحدة فقط”.

مجتمع دولته مهدّدة بالتفكّك وإسرائيله بالزوال

كذلك نغرف من المعين نفسه قول رئيس وزراء “إسرائيل” الأسبق إيهود باراك في صحيفة “يديعوت أحرونوت” بتاريخ 4/5/2022 “أخشى ألّا تجتاز دولة إسرائيل عمرها الثمانين فتتفكّك قبل وصولها سنّ الثمانين”.

نفتالي بينيت رئيس حكومة “إسرائيل” صرّح بتاريخ 3/6/ 2022 بأنّهم يواجهون خطر التفكّك وأنّ إسرائيل “تشهد حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار”.. ثمّ يطرح سؤالاً يدعو إلى التفكّر ملياً مؤدّاه: “إنّنا نقف أمام اختبار حقيقي فهل سنتمكّن من المحافظة على إسرائيل؟” (منقول عن “الميادين”).

وتذكر “الميادين” أنّ استطلاعاً للرأي نشرته صحيفة “إسرائيل هيوم” في شهر أيار 2022 أظهر أنّ 69% من المستوطنين يخشون على مصير إسرائيل…

وفي السياق نفسه جاء في صحيفة “رأي اليوم” بلسان زهير إندراوس أنّ المؤرّخ الإسرائيلي عوفر ألوني نشر مقالاً في صحيفة هآرتس بتاريخ 4/6/2022 جاء فيه: “كلّما ارتفع تطرّف الدولة اليهودية وتعزّزت حركات العودة ل “جبل الهيكل” فإنّ النبوءة بزوال إسرائيل ستتحقّق.. إسرائيل في القرن 21 مضطربة ومشوّشة ومجنونة تماماً مثل الرؤيا المروّعة وفاقدة للمصداقية، وأثبت التاريخ بأنّها ولدت بالخطأ”.

مجتمع معظم قياداته العسكرية والسياسية مطارد ومطلوب أمام محاكم وقضاة غير دولة لارتكابهم جرائم ضدّ الإنسانية، وغير مرغوب بوجودهم ووجود سفرائهم في قاعات عامة وبخاصة جامعية، ومدانون ببيانات ومواقف صادرة عن جمعيات حقوق الإنسان فضلاً عن مظاهرات التنديد في عدد من عواصم الدول ومدنها الكبرى بسياسات الحكومات الإسرائيلية وإجراءاتها العدوانية والعنصرية تجاه الشعب الفلسطيني..

مجتمع قائم على نظام الفصل العنصري لا مستقبل له بين المجتمعات القائمة على أنظمة حقوق الإنسان والمواطنة التشاركية والحريات والديموقراطية.. إنّه النظام الوحيد الذي ما زال قائماً في هذا العالم.. (قانون الدولة اليهودية تمّ إقراره في سنة 2018) إنّه النظام الوحيد الذي ما زال يعتمد سياسة الترحيل الجماعي والقتل الجماعي وحتى الإبادة الجماعية. شرفاء العالم وأحراره تأكّد لهم مرّة أخرى أنّ “إسرائيل” هي دولة إرهابية عنصرية بمواصفات تامّة وهي تعيش منذ استعمارها لأرض فلسطين على التمادي في ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وهي مصدر البلاء في هذه المنطقة والعالم.

 فلسطين ضاعفت الكثير من عناصر قوّتها

موازين القوى العسكرية باتت لصالح المقاومة الفلسطينية فانتصار الصمود في غزّة في غير جولة من جولات حروب الإبادة التي تشنّها “إسرائيل” أثبت أنّ غزّة قاومت وصمدت بكفاءة قتالية عالية وصمود شعبي قاهر لواحد من أكثر جيوش العالم تجهيزاً عسكرياً وأشدّهم استعداداً لقتل المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ.

انتصار المقاومة في غزّة كما انتصار المقاومة في لبنان (تحرير العام 2000 وصمود العام 2006) يشكّلان معا نقطة تحوّل تاريخي واستراتيجي في الصراع العربي/ الصهيوني إذ أنهيا معاً زمن الانكسار والهزيمة.

إطلاق صواريخ إلى عمق الأراضي المحتلة من غزّة ومن لبنان أظهر مدى ازدياد قوّة المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية ومدى فاعلية السلاح وإرادة الشعب المقاوم العازم على التحرير في تعديل موازين القوى لصالح قضيّته.

لقد أثبتت ترسانة الصواريخ التي تمتلكها المقاومة في غزّة كما أثبتت ترسانة الصواريخ التي تمتلكها المقاومة في لبنان أنّها سلاح فعّال ورادع ويمكن تحويله إلى سلاح استراتيجي في إحداث توازن الرعب. المستعمرات كافة لم تعد في مأمن من قوّة هذا السلاح وفاعليته ما أرعب الصهاينة وزادهم قلقاً على مصير الكيان.. هذا واحد من المعاني الاستراتيجية الناجحة التي نفهم بها انتصار غزّة ولبنان، وهما وجهان لحقيقة واحدة ما دام العدو الإسرائيلي واحداً.

ازدياد القناعة عند أبناء القضيّة بأنّ خيار الكفاح المسلّح هو السبيل الوحيد والمتاح للتحرير والوحدة فالمقاومة المسلّحة تجمع والمفاوضات مع عدو لا يفهم إلاّ لغة السلاح تفرّق، ما يعني تعزيزاً لا يخطئ لصوابية خيار المقاومة ورفضاً لمفاوضات بلا أفق (ما أخذ بالقوّة لا يُستردّ بغير القوّة هو عنوان الدرس المستفاد فلسطينياً من استراتيجيا التحرير التي وضعها الرئيس عبد الناصر).

الاعتراف على الورق لا يلغي الوقائع على الأرض ما يعني استحالة فرض الحلول بسحق المقاومات الشعبية وكيّ وعيها لقضاياها المحقّة، والشعب الفلسطيني ترسّخت فيه ثقافة المقاومة. وقضيّته حيّة في عمق أعماق وعيه..

تعاظم التأييد الدولي للقضيّة الفلسطينية لدى بعض الحكومات والمجالس النيابية والأوساط الشعبية والحزبية والجامعية والإعلامية والرياضية والفنّية ومراكز البحوث والدراسات في العديد من دول العالم فضلاً عن مظاهرات الشعوب ومواقف النخب العالمية الداعمة للقضية فضح الكمّ الهائل من التواطؤ الأميركي/ الإسرائيلي للتغطية المضلّلة للمجتمع الدولي فانكسر صمته عن العدوان وجرائمه وعلا صوته نصرة للحقّ.

إنّ المعارضة المعلنة لاعتداءات “إسرائيل” على القدس ومقدّساتها تشكّل فرصة تاريخية لتفعيل الحملات العالمية المناصرة لفلسطين.

استجابة التحركات الشعبية في غير قطر عربي لنداءات فلسطين، على تفاوت أعدادها وزخمها، وعلى النقيض من موقف بعض الأنظمة والحكومات العربية، تثبت مرّة أخرى أنّ القضية الفلسطينية هي قضيّة قومية لا بل القضية القومية التي تتفرّع منها سائر القضايا.

الديموغرافيا عامل حاسم في الصراع العربي/  (وليس النزاع الإسرائيلي/ الفلسطيني كما يريد من تخلّى عن القضيّة أن يتلاعب بالثوابت القومية) وهو هاجس مقيم لدى الحكومات “الإسرائيلية” ودافعها إلى إجراءات الإبادة والترحيل والإحلال.

لأوّل مرّة يقول عاموس أرئيل في صحيفة هآرتس: “منذ العام 2020 يوجد عرب أكثر بقليل من اليهود بين البحر المتوسّط ونهر الأردن.”

الديموغرافيا الفلسطينية (ما يقارب سبعة ملايين ونصف المليون) داخل الأراضي المحتلّة حقيقة تاريخية متصاعدة حكماً ما يتيح لها الانتصار على إجراءات إفراغها من هويّتها الوطنية والقومية.

محو الهويّة الفلسطينية بات من مستحيلات العبور الصهيوني إلى تكريس الاحتلال وتثبيت هويّته اليهودية على الرّغم من توسيع حركة الاستيطان في الضفّة (عدد المستعمرات في الضفّة تجاوز الـ 130 مستعمرة وعدد سكّانها يقارب الـ 500 ألف مستوطن).

هذه الحقائق هي منشأ الخلاصة الآتية: الاستيلاء على الجغرافيا لا يعني الاستيلاء على الديموغرافيا…

وقائع تدفع إلى مزيد من التعثّر في مسيرة الانتصار

عجز الأمم المتّحدة ومجلس الأمن عن تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة التي تتناقض و”صفقة العصر” (صفقة أنهى مفاعيلها التصدّي لقطعان الصهاينة وإفشال محاولاتهم للسيطرة على المسجد الأقصى ومحاولات تهويد القدس وإزالة معالمها الدينية…) وتعترف بـ “الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني”، و”حقّ تقرير مصيره بنفسه”، و”بالحقّ في الاستقلال والسيادة الوطنية”، وبإنشاء دولة فلسطينية مستقلّة ذات سيادة”، ما يعني أنّ “إسرائيل” في نظر الدول الكبرى هي دولة استثنائية لا يسري عليها تطبيق القرارات والقوانين الدولية.

تأكيد الإدارة الأميركية موافقتها بصورة مستمرّة على إقامة دولة فلسطينية مستقلّة لا مصداقية فعلية له أيّاً كان الحزب الحاكم فكلاهما يعمل على تبديد الحقوق الفلسطينية واحداً بعد الآخر.

عجز الأنظمة والحكومات العربية عن ردع “إسرائيل” يصاحبه ما هو أشدّ خطراً على القضيّة ألا وهو تخلّ طوعي أقدمت عليه بعض الدول العربية عن جوهر الصراع وطبّعت علاقاتها بإسرائيل في الخفاء وفي العلن لا بل تجاوزت التطبيع إلى الاعتراف الصريح بحقّها في إقامة دولتها فوق أرض فلسطين.

انزياح بعض الدول العربية عن المفهوم التاريخي لطبيعة الصراع العربي/ الصهيوني وتحويله إلى صراع عربي/ فارسي وإلى صراع سنّي/ شيعي وإلى صراع بين دول عربية “معتدلة” سلمية هي في محور الخير ودول عربية “متطرّفة” إرهابية هي في محور الشرّ، بين دول عربية مصنّفة مع السلام وأخرى في “البؤر العاصية”! حتى بات من المستحيل إزالة الخلافات والتناقضات في ما بينها بل ازدادت تفاعلاً لدرجة باتت تهدّد الوحدات القطرية فكيف بالوحدة العربية أو أقلّه كيف بالموقف العربي الموحّد من قضيّة فلسطين؟!

ليس من الممكن التأسيس، والحال هي هذه، لتفاهم عربي على استراتيجية مواجهة تعيد الاعتبار لمفهوم الأمن القومي ولمؤسسات العمل العربي المشترك.

لا مكنة للدول العربية كذلك، في ظلّ المتغيّرات الدولية لصالح الدول المناهضة للسياسة الأميركية، من إدارة علاقاتها مع هذه الدول في مشهد دولي جيو/ سياسي/ استراتيجي بدأ بالتكوّن مختلف عن المشهد الدولي الذي تكوّن بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي، في الوقت الذي بدأت فيه دول كثيرة تنظر إلى الصين وروسيا لاعبين أساسين في منظومة العلاقات الدولية وهما يسعيان لوضع حدّ للتمدّد الأميركي في أوراسيا، مصدر الطاقة والعرب جزء منها.

نقول هذا والشكّ يساورنا في أنّ الدول العربية المعنية قادرة على إعادة النظر في طبيعة علاقاتها بالولايات المتّحدة الأميركية لكي يتمّ تحرير القضيّة الفلسطينية من شبكة التحكّم الأميركي/ الإسرائيلي.

حقّ العودة بموجب القرار 194 يسقطه كلام دائر في أروقة الأمم المتّحدة وفي عدد من مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية على توطين الفلسطينيين حيث هم، وثمّة كلام آخر قديم ومتجدّد على مئات مليارات الدولارات لتغطية الحق في التعويض ولرشوة الدول المضيفة (هذه الرشوة المزعومة نصّت عليها صفقة العصر على أن تؤمّن الأموال من دول الخليج العربي).

الجغرافيا الفلسطينية معرّضة للإقتسام فثمّة كلام قديم متجدّد يذهب في اتّجاهين: إقامة دولة “غزّة/ سيناء” والعودة إلى الخيار الأردني (إلحاق الضفّة بالأردن وإقامة دولة إتّحادية) وهي معرّضة كذلك إلى مزيد من التشطير عبر الطرق الملتوية ومزيد من عدد المستعمرات والوحدات الإسكانية.

الوحدة الفلسطينية لم تبلغ حدّاً، رغم كلّ المساعي التي يقوم بها الطرفان فضلاً عن الجهود المصرية، لتوسيع مساحة التفاهمات المشتركة على العديد من المسائل الخلافية، يسمح بإنهاء الإنقسام السياسي/ الجغرافي بصورة نهائية بين الضفّة والقطاع.

توظيف انتصارات المقاومة في غزّة والانتفاضات الشعبية في القدس والضفّة (سيف القدس جمع بينهما) لم يأخذ طريقه النهائي لتوحيد الرؤيا والموقف بين جميع الفصائل وإعادة هيكلة منظّمة التحرير على الرّغم من المطالبات الكثيرة والمكرّرة في هذا الموضوع لإنجازه والتخلّص من التشرذم ومن تبعات التعامل الأمني مع “إسرائيل”.

تبقى واحدة من هذه الوقائع، وهي الأشدّ خطراً على القضيّة الفلسطينية، إنّها اتفاقات أبراهام (اتفاقات السلام الإسرائيلي الإماراتي، والسوداني، والبحريني، والمغربي).

هذه الاتفاقات أدخلت المنطقة في سلام من نوع آخر (سلام الأديان) تعويضاً عن سلام جغرافي/ سياسي متعثّر لا بل مستحيل ما دام الاحتلال قائماً ودولته العنصرية قائمة، وكيّاً لوعي الأجيال العربية لتعقيم عدائها العميق للصهيونية. كلّ ذلك ادّعاء بوجود قيم مشتركة بين “شعوب” إسرائيل وشعوب الدول المعنيّة بتلك الاتّفاقات.

عناوينها قريبة جدّاً لا بل هي نفسها في مواضع كثيرة من تلك التي حملها كتاب شيمون بيريز “الشرق الأوسط الجديد”، مثالها التعاون الاقتصادي والتجاري والسياحي والتقني والبحث العلمي مصحوبة بتبادل الزيارات على مستوى الحكّام وعقد المؤتمرات المشتركة…

“سلام الأديان” هو الثالث بعد “سلام كامب ديفيد” و “سلام أوسلو”، ولكلّ مرحلة “سلامها” المدمّر للقضيّة الفلسطينية.. أمّا شعبها فصامد ومقاوم حتى التحرير… وما يتبع من حقوق.

*كاتب لبناني وعميد سابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى