بوتين: رؤية استراتيجيّة
– عندما ننظر في كل الأدبيات الغربية التي سبقت ورافقت الحرب الأوكرانية وقد مضت عليها أربعة شهور، نكاد لا نقع إلا على الردح الإعلاميّ بحق روسيا والرئيس بوتين، بصورة تخلو من أية قراءة يمكن وصفها بـ التحليليّة لفهم الغرب سياق الحرب وموقعها في الجغرافيا السياسية لأوروبا والعالم، أو لموازين القوى التي نشأت عنها الحرب وتلك التي تنشئها.
– خلال عشرات الإطلالات ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاستراتيجي الوحيد في هذه الحرب المتعددة الأطراف، والتي صارت أوروبا وأميركا أطرافاً مباشرة فيها بصورة مكشوفة، فقد تحدث مراراً عن العالم المتعدد الأقطاب، وهي معادلة خلت خطابات قادة الغرب ومفكريه من أية محاولة جدية في مناقشتها ومحاولة تفكيكها، وتحدّث عن إعادة صياغة مفهوم الأمن والسلم الدوليين، والتوازن الاستراتيجي بين الشرق والغرب، ونظام العقوبات كأداة فاشلة لتحقيق النصر، حيث تفشل الجيوش، وحاجة أوروبا لإعادة تعريف مفهوم الأمن بدمج الأمن العسكري والسياسي بأمن الطاقة والغذاء، ومكانة الجغرافيا والجوار في رسم الشراكات والعداوات، وفي كل هذه المقولات الجديدة والاستراتيجية بقي الغرب، الذي ولدت منه المفاهيم الحديثة في ميادين الحرب والسياسة والاقتصاد صامتاً عاجزاً حتى عن مجرد إدارة النقاش.
– في إطلالته في منتدى بطرسبورغ أضاف الرئيس بوتين مقولات جديدة يرجح أن تبقى كسابقاتها دون نقاش، فقد قال بوتين إن واشنطن تسرعت بإعلان انتصارها في الحرب الباردة، وتصرّفت بعيداً عن السياسة بلغة خرافية كأنها رسول الرب، ثم قال إن نخب الغرب تتمسك بأشباح الماضي وتعيش على أنقاض أمجاد زالت أسبابها، وتعيش وهماً ايديولوجياً عنوانه أن هيمنة الغرب مصدر استقرار العالم، وقال بوتين، إن مشكلة الغرب هي النفاق في صياغة الخطاب السياسي بازدواجية المعايير التي تعبر عن عمق عنصري في التفكير. فالحرب على سورية والعراق وليبيا مشروعة للغرب، لكن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا الأشد شرعية من حروب الغرب يعتبرونها غير شرعية. ويضيف الرئيس بوتين، وهم قدرة العقوبات على حل ما تحله السياسة والحرب، نابع من النظرة العنصرية ذاتها القائمة على العزل، بينما العقوبات ظهرت بوضوح سلاحاً فاشلاً أصاب أصحابه بالأذى قبل مَن يستهدفهم. فها هي روسيا تتجاوز التضخم وتنطلق للنهوض، بينما الركود والكساد والتضخم أمراض متفاقمة في الاقتصادات الغربية، مجدداً القول إنه مع سقوط آخر أسلحة الغرب الذي تمثله العقوبات، فإن عهد الهيمنة قد انتهى الى غير رجعة.
– أمام هذا الوضوح والتماسك والعمق في خطاب بوتين، ضحالة ووهن وشتائم في خطاب الغرب، وهذا التفاوت وحده يكفي لمعرفة هوية المنتصر في هذه الحرب.