أخيرة

الفكر والشعور الصالحان هما منبع الأدب الصالح

} يوسف المسمار*

الصديق العزيز الأستاذ إياد مرشد المحترم

دمشق مكتبة الأسد

تحية الاحترام والتقدير

لك كل الشكر على الجهد المبذول والمميّز في دراستك القيّمة التي صدرت في مجلة المعرفة في العدد 657 – حزيران 2018، والتي أضاءت على اتجاهي في الأدب والشعر والنضال، خصوصاً قولك الذي لا أقدر أن أفيك حقك وهو أنني “شاعر مهجري يعيش في المهجر جسداً ويعيش فيه الوطن روحاً وجوهراً»، وقولك أيضاً: «وفي زمن عزّت فيه الأخلاق بقي يوسف المسمار يكتب قصيدة تنشد المثل العليا والقيم الاخلاقية، والتي رأى فيها المعبّر الحقيقي عن الوجود الإنساني بدلالاته السامية».

لستُ أدري ما اذا كنت استحق كلامك الكبير بحقي وبحق ما كتبت من شعر، وخاصة اكتشافك ومعرفتك لاتجاهي الأدبي في الشعر بشكل دقيق حين قلت: «الوطن يعيش فيّ روحاً وجوهراً. وقولك أيضاً قصيدتي تنشد المثل العليا والقيم الاخلاقية».

 فالقول الأول يفيد أنني لست شاعراً فردياً ذاتيا يكتفي بالانغلاق على ذاته، ويسبح في عالم هواجسه، ويريد التنفيس عن همومه، بل أكتب الشعر الاجتماعي أي شعر «النحن». والشعراء الاجتماعيون في هذا الزمان نادرون في محيط متلاطم من شعراء «الأنا».

 والشعر الذي أكتبه يتجه فعلاً الى المُثل العليا وينشد مثالاً أعلى لـ «النحن» أي لأمتنا أي ليس للأفراد الذين قال عنهم القرآن الكريم «الشعراء يتبعهم الغاوون في كل وادٍ يهيمون».

ان كلمة «شعر» من حيث هي كلمة مؤلفة من حروف هجائية لا معنى لها ولا قيمة الا اذا عُرّفت وتوضّح معناها بما لا يثير أي شك أو التباس.

 وبناء على ما ورد في القرآن الحكيم يمكننا أن نستنتج أنه يوجد نوعان من الشعر: شعر العقلاء الحكماء الذين يحلقون في فضاءات القمم, وشعر الغاوين الذين في كل وادٍ يهيمون.

ولذلك أعطى القرآن للقارئ مجالاً أن يهتدي بعقله الى غير نوع من الشعر إذا استخدم عقله كما يجب. وانطلاقاً من هذا المفهوم أراني واثقاً من أنه يوجد نوعان من الشعر: شعر الأوهام وشعر الحقائق. الأول يقوم على التعلّق بالتوهم والهيمان والشرود في متاهات الرغبات الشخصية، والثاني أساسه العقل القومي الاجتماعي الذي همّه أن يكون في خدمة الخير العام الاجتماعي الإنساني.

 والفرق بين الأوهام والعقل هو كالفرق بين الظلام والنور. والشعراء بحسب هذا التصنيف هم صنفان: صنف يرتاح الى السير في الظلام ويشغل الناس بنفسه وبأشعاره وكأن العالم ما وجد الا لإشباع رغباته وكل ما عداه باطل.

 وصنف يرفض البقاء في الظلمة ويأبى الا أن يخرج من الظلمة الى النور وينهض ليتّحد بمشعل أبناء الحياة في وطن وأمة تتعاقب أجيالها جيلاً بعد جيل، وتنتقل هذه الأجيال من قمة تقدم الى قمة تقدمٍ أعلى، ومن حالة جيّدة الى حالةٍ أجود واضعةً أمامها مثالها الأعلى في الوجود لترى ما لا يُرى من الروائع، وتسمع ما لا يُسمع من سمو الألحان والأنغام، وتحس بما يصعب إحساسه من بدائع الوجود، وتعمل على تحقيق ما لم يقدر الغابرون على تحقيقه من إنجازات وروائع.

وهنا يختلف أمر الشعر من شاعر فرديّ قلقه على ذاته الفردية دون الالتفات والاهتمام بذوات غيره من أبناء وطنه، وشاعر اجتماعي همّه ذات الأمة العامة وتحقيق أغراضها ومراميها البعيدة في الحياة التي يجد في تحقيقها تحقيق ذوات الملايين في تعاقب الاجيال من أبناء أمته فضلاً عن تحقيق ذاته التي تؤهله بشعره الاجتماعي العام أن يساهم بإنتاج أدب عالمي راقٍ يعبّر عن نفسية أمته ومطامحها الإنسانية النبيلة.

واود ان أذكر هنا ما ورد في رسالتي الجوابية على طلب الأديبة المغربية فاطمة بوهراكة التي دعتني للاشتراك بمسابقة صدانا للإبداع الإدبي الشعري في 29 / 12 /2008 حيث قلت في رسالتي اليها: “الأدب مظهر إنساني اجتماعي ثقافي، وللإنسان الاجتماعي الثقافي حالان: حالة الجهالة وحالة الوعي. فإما أن يكون أدب الإنسان أدب جهل واما ان يكون أدب وعي. ولذلك يصعب أو يستحيل تقييم أدب الجهل، كما يصعب ويستحيل تقييم أدب الوعي. فليس لأدب الجهل حد يصل إليه في الهبوط والانحطاط، كما ليس لأدب الوعي أفق يصل اليه في الارتقاء والسموّ. وقد مرّ أدب اللغة العربية بهاتين الحالتين اللتين مرّت وتمر بهما المجتمعات العربية. وحين ورد في القرآن الحكيم «الشعراء يتبعهم الغاوون في كل واد يهيمون»، كان يقصد بالفعل شعراء حالة الجهل والجاهلية، وليس شعراء حالة الوعي والتنوير.

 ولذلك كانت رسالة النبي من أجل إخراج الناس من الظلمات الى النور بحيث يتخلص الإنسان من حالة الجهل وتفكير الجهل وأدب الجهل وشعر الجهل وكل فنون الجاهلية وينتقل الى حالة النور والوعي فيستيقظ فيه تفكير جديد جيّد واعٍ وهادف، ويحصل له شعور جديد راقٍ فينتج أدباً جديدا واعياً راقياً، وشعراً راقياً مفيداً وكل فن جميل… «.

ومن هذا الكلام يمكن أن ندرك أن الشعر ليس غاية في ذاته بل هو وسيلة لتحقيق غاية. فإذا كان شعر جهالة فغايته بدون شك التجهيل والتضليل والخداع، أما إذا كان شعر وعي فغايته البديهية هي التوعية والإرشاد والهداية.

وكل الوسائل في هذه الحياة يمكن ان تكون تخريبية وتعميرية في الوقت ذاته. فإذا كان منبعها الجهل وأنانية الشخصية فمثالها البعيد البعيد الجمود في عالم الخرافات والخمول المدمّر، أما إذا كان منبعها العقل الاجتماعي الإنساني المنفتح فمثالها الأعلى هو توسيع آفاق الرقي المفتوحة على اللاحدود التي تحيي وترفع الحياة الى أعلى مستوى.

لقد تعلّمنا في مدرسة الحياة السورية القومية الاجتماعية أن: “العقل في الإنسان هو نفسه الشرع الأعلى والشرع الأساسي، هو موهبة الإنسان العليا. هو التمييز في الحياة. فإذا وضعت قواعد تُبطل التمييز والإدراك، تُبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الإنسان الأساسية وبطل أن يكون الإنسان إنساناً وانحطّ الى درجة العجماوات المُسيَّرة بلا عقل ولا وعي».

كما عبّر عن ذلك مؤسس المدرسة القومية الاجتماعية العالم الاجتماعي والفيلسوف ورائد الأدب الحديث التمدني أنطون سعاده. فكل الوسائل التي يستخدمها العقل الإنساني الناضج المكتمل الذي هو العقل الاجتماعي العام، من فلسفة وعلم وفن وأدب بشعره ونثره واجتماع واقتصاد وسياسة وادارة وتنظيم هي وسائل نافعة، أما الوسائل التي تناقض العقل الاجتماعي العام المدرك وأحكامه فلا يمكن أن تؤدي الى فلاح في الحياة.

فالفلسفة للفلسفة لا تفيد، بل إن الفلسفة التي تفيد هي التي تهدف الى رقي المجتمع وكذلك العلم والفن والأدب والاجتماع والاقتصاد والسياسة والادارة والتنظيم وبالطبع الشعر.

وقد عبّرت عن ذلك في إحدى القصائد بالقول:

الشعـرُ والنـثـرُ والآدابُ أجمعُهـا

إن شابها اللهـو فيها السُمّ يستـتـرُ

فالدينُ والشرعُ للإنسان خيرُهما

والشعـرُ والنقـدُ والآدابُ تُعـتـبـر

كـلُّ التعاليـمِ والأفـكـارِ باطـلـةٌ

إن صار فيها ارتقاءُ الناس ينحدرُ

لا ينفـعُ الناسَ أفـكـارٌ تُـكَـبِّـلُـهـمْ

بل ينفعُ الناسَ أن تُهديهُمُ الفِـكَـرُ

وشاعر النور والعقل الذي تحتاجه الأمة ليس الذي يستمد روح شعره من الأوهام والخرافات ولا من بقايا فتات الشعوب وفضلات فلاسفتها وأدبائها وشعرائها، بل الذي يستوحي روحه من مواهب أمته وعباقرتها. وهل هناك أمة أغنى من الأمة السورية بتراثها الحضاري وتاريخها الثقافي الذي هجره أبناؤها وذهبوا يلملمون ما لم يعُد بحاجة له الآخرون من أبناء الشعوب أو من البقايا التي رمتها الشعوب وترميها في مكباتها.

إن الشاعر الذي تحتاجه الأمة هو الشاعر الأشعر الذي قلت عنه في إحدى قصائدي:

أشعـرُ الناسِ شاعـرٌ نهـضويٌّ

يملأ الكـونَ بالهُـدى والضيـاءْ

ويشـقُّ الـدروبَ للـناسِ حـتى

تًصبحَ الأرضُ للسماءِ السماءْ

إن كل الفلسفات والعلوم والفنون والآداب والأفكار والسياسات يجب أن تكون وسائل لتحسين مستوى حياة الإنسان – المجتمع، ولكن هذه الوسائل عاجزة عن تحقيق أي شيء حسن إن لم تكن وراءها نفسية جميلة تحركّها، وان لم يكن أمامها مثالٌ أعلى تتجه اليه. وهذا يتطلب نفسية صالحة ونظرة شاملة واضحة الى الحياة والكون والإبداع تنتج فكراً وشعوراً جديدين صالحين في الحياة يؤديان تلقائياً لانطلاق نهضة في جميع شؤون الحياة المادية والروحية. اذ ليس من العقل أن ننتظر شعراً راقياً سامياً حيث لا يتمتع الشاعر أو الأديب بفكر وشعور راقيين ساميين.

 إن نهضتنا القومية الاجتماعية لا تسعى فقط الى الالتزام النظري أو الفكري أو التنظيمي او الإداري او السياسي، ولا الى كل هذه الأمور مجتمعة، بل تعمل فوق ذلك من أجل توليد الفكر الجديد الصالح، والشعور الجديد الصالح لتحقيق النهضة الجديدة الصالحة التي تؤدي الى خلق وإبداع كل شيء جديد صالح.

ومن هذه النقطة بالذات يجب أن تكون نقطة انطلاق لنهضة في أمتنا تفجّر بالعقل والعاطفة معاً منابع الفكر الصالح والشعور الصالح اللذين ينتجان الأدب المنارة شعراً ونثراً لجيلنا الحالي وللأجيال التي لم تولد بعد.

 إن ما أكتبه من الشعر او النثر ليس التزاماً سياسياً، ولا أروّض الشعر لخدمة السياسة. فالسياسة والشعر والفلسفة والعلم والفن كلها وسائل بأيدي الإنسان لخدمة أغراضه ومراميه في الحياة، وحين لا تسطيع خدمة مطالبه لا قيمة لها ولا فائدة منها ولا نفع، واشكرك جداً على استدراكك وكلامك على أن ارادتي أن أكون رسولاً لمبادئ خدمة أمتي ووطني سواء كنت في الوطن او في المهجر الذي هُجّرت منه بسبب تلك المبادئ لأن قناعتي راسخة ان لا قيمة للإنسان الا اذا أدرك نفسه إنساناً – مجتمعاً وتحرّك في الحياة بمبادئ تنهض به كأمة تتعاقب أجيالها متقدمة الى تحقيق المُثُل العليا وتحتل مكانها الطليعي بين الأمم.

هذه الأمة السورية التي قال فيها أديبنا العبقري الفيلسوف جبران خليل جبران: «أنا أنظر الى سورية نظرة الابن الشغوف الى أمه المريضة بعلتين هائلتين، علة التقليد وعلة التقاليد». وقال أيضاً: «أواه ما أعظم بليتك يا سورية، إن أرواح أبنائك لا تدبّ في جسدك الضعيف المهزول، بل في أجساد الأمم الأخرى، لقد سلتكِ قلوبهم، وبعدت عنكِ أفكارهم، يا سورية، يا سورية، يا أرملة الأجيال وثكلى الدهور، يا سورية يا بلاد النكبات، إن أجسام ابنائكِ لم تزل بين ذراعيكِ، أما نفوسهم فقد بعُدت عنكِ، فنفسٌ تسير في جزيرة العرب، ونفسٌ تمشي في شوارع لندن، ونفسٌ تسبح مرفرفة فوق قصور باريس، ونفس تعدّ الدراهم وهي نائمة… أنا سوريّ وأريد حقاً سورياً».

ان هذه الأمة التي قال جبران إن اجسام أبنائها لم تزل بين ذراعيها، أما نفوسهم فقد بعُدت عنها، وأصبحت أماً لا أبناء لها تنادي من تبقى من أحفادها البررة أن يستيقظوا ويتنبهوا الى الخطر الكبير الذي يتهدّدها، لأنه لا يمكن حمايتها وانتشالها من بين براثن الوحوش الهائجة الا بمبادئ حركة النهضة السورية القومية الاجتماعية، وتحقيق وحدة بلاد الشام والرافدين، وانتهاج الفلسفة القومية الاجتماعية التي وضع أسسها من ختم رسالته بدمه، وبرّ بقسمه، وصدق في قوله: «كل ما فينا هو من الأمة، وكل ما فينا هو للأمة. الدماء عينها التي تجري في عروقنا ليست ملكنا، إنها هي وديعة الأمة السورية فينا متى طلبتها وجدتها». وقد أثبتت الأحداث أن أبناء هذه العقيدة ما بخلوا يوماً بردّ الوديعة الى الأمة الأم الذين لم يقدّر لجبران ولم يسمح له رحيله المبكر أن يلتقي بهم ويعرفهم قبل الرحيل عن هذا العالم.

إن الانتماء القومي الاجتماعي هو انتماء يحرر ولا يقيّد، ويفتح آفاق الفكر ولا يغلقها، ويحلّق في الرحاب الفسيحة ولا يؤسر في الدوائر الضيقة لأنه انتماء طبيعي للحياة وكل ما هو طبيعي حياتي خالد. الدول تدول، والحكومات ترحل، السياسة تتبدل، والتقاليد والعادات والأعراف تتغير، والعلوم والفلسفات والأديان والمذاهب تتطور أما الأمم فهي مجتمعات طبيعية باقية ببقاء الطبيعة وبقاء الحياة، وكل فكر أو أدب أو شعر لا تكون جذوره من الطبيعة والحياة لا يمكن أن يحيا، وأدب الحياة هو الأدب الذي يتجدد بتجدد الحياة في مجتمع الأمة ولا يستورد او يُستعار أو يمنح من الخارج بل ينبع من صميم الأمة لصالح الأمة فتساهم الأمة بصلاحها في صلاح الإنسانية وصلاح آدابها.

 أشكرك يا صديقي العزيز على كل ما كتبته عني وعن شعري الذي كان دافعاً لكتابة هذه الرسالة التي جاءت بشكل مقال اخترت له عنواناً هو: «الفكر والشعور الصالحان هما منبع الأدب الصالح».

دمنا جميعاً على طريق الحق والجهاد للعمل من اجل وحدة بلاد الشام والرافدين القومية الاجتماعية لأن في وحدة بلاد الشام والرافدين ونهضتها تكون الخطوة الأولى السليمة لتحرير فلسطين وتحقيق الجبهة العربية السليمة التي تعود بالخير والتقدم على جميع المجتمعات العربية وتجعل للعالم العربي مكانته اللائقة بين الأمم والعوالم الناهضة.

لك محبتي وتحيتي القومية الاجتماعية
يوسف المسمار
البرازيل في 15 /07 / 2018.
*باحث وشاعر قومي مقيم في البرازيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى