للمرة الأولى منذ سبأ اليمن الرقم الأصعب
محمد صادق الحسيني
لم يكن اليمن مهمة وأساسية ومحورية في الجزيرة العربية والإقليم بل والمجتمع الدولي كما هي اليوم.
والأهمّ من هذا هو أن يصبح مصير هذا المهمّ وهو اليمن محصوراً بيد جماعة هي الأكثر خصوصية وتميّزاً في تاريخ اليمن.
فمن المعروف انّ اليمن في التاريخ الحديث قد مرّ بثلاث مراحل أساسية:
1 ـ المرحلة الأولى وهي مرحلة تأسيس الدولة اليمنية الحديثة بزعامة الإمام يحيى حميد الدين والتي انبلجت من بطن التحوّلات العالمية التي ترتبت على الحرب العالمية الأولى، حيث تمكن اليمنيون وبإجماع علمائهم وعقلائهم من انتزاع استقلالهم من العثمانيين كحركة تحرر وطني، دون الوثوق أو الوقوع في أحضان الانجليز، الذين جوبهوا برفض قوي من المملكة المتوكلية المعلنة حديثاً، رغم خصومتهم المشتركة مع العثمانيين، على خلاف ما وقع فيه رواد الثورة العربية من الأسرة الهاشمية التي توافقت مع بريطانيا العظمى ووثقت بها في إطار وعود كاذبة وخديعة كبرى في منطقة بلاد الشام!
2 ـ المرحلة الثانية وهي المرحلة الجمهورية باعتبارها محطة جديدة من محطات التحرر الوطني اليمني من الاستعمار تشكلت وتبلورت على أنقاض معادلات الحرب العالمية الثانية، والتي توّجت مع ثورة الضباط الأحرار وتسلمهم الحكم بقيادة عبد الله السلال المتأثر بالمدّ القومي العربي والحركة الناصرية التحررية وذلك في ٢٦ سبتمبر في العام ١٩٦٢.
3 ـ المرحلة الثالثة وهي المرحلة التي يمكن أن نطلق عليها اختصاراً “المسيرة القرآنية” نسبة الى المشروع التحرري المعاصر الذي أسّسه الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي الذي شرع به مع أواسط تسعينيات القرن الماضي والتي قدّمت عملياً إضافة نوعية مهمة جداً على المشروع التحرري اليمني الحديث والدولة المعاصرة من خلال إضافة بندي العداء لليهود اي الصهيونية بالاسم والانتماء الواضح للإسلام بالاسم أيضاً، كما يتبيّن ويتضح بكلّ شفافية وصراحة من خلال شعار الصرخة الشهير:
الله أكبر الموت لأميركا الموت لـ “إسرائيل”،
اللعنة على اليهود
النصر للإسلام
وهو المشروع الذي توّج بتسلم وريث المؤسّس وخليفته بالحق وشقيقه السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي عملياً زمام اليمن العاصر في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤.
انّ ذكرنا لهذه المراحل الثلاث لم يأت في إطار التدوين التأريخي لدولة اليمن، ولا محاولة تقييم عصر الاستقلال اليمني، بقدر ما هو إشارة ضرورية لفهم وإدراك معادلة الاشتباك الشديدة المراس الحاصلة حالياً بين الداخل اليمني والمحيط الخارجي.
فالباحث بدقة في ما وقع ولا يزال يقع من تحوّلات كبرى في اليمن منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى الآن يلاحظ ما يلي:
أولاً: إنّ اليمن الحديث ورغم نيل استقلاله وتأسيس دولته الحديثة لا يزال يعيش مرحلة حركة تحرر وطني غير مكتملة الانتصار على الاستعمار والهيمنة الخارجية، وهذا أمر استثنائي لا يشبه الأقطار المحيطة من دول الجوار اليمني ولعله في غالبية الأقطار العربية، بل وقد يتعارض مع جيرانه على الاقلّ، ما يجعله أقرب ما يكون الى الحالة الفلسطينية الواقعة تحت نير الاحتلال والهيمنة الخارجية.
ثانياً: انّ اليمن وخلافاً لسائر الأقطار المحيطة به او الشقيقة له كان دائماً يتحرك مستقلاً عن المحيط سواء في المرحلة الملكية حيث التصادم العلني بينه وبين المشروع القومي العربي الناصري لأسباب يمنية تحررية خاصة بصيرورة صناعة القرار اليمني المستقلّ.
وفي المرحلة الجمهورية حيث التصادم مع الملكيات المحيطة به والطامعة بثرواته والمتذمّرة من حسّه الاستقلالي الخاص.
ثاالثاً: انّ المرحلة التحررية الثالثة، أيّ الحالية، أضافت عملياً عنصراً تمايزياً جديداً من شقين وهو أنها بالإضافة الى ما تقدّم أضحت تعلن العداء الصريح والمعلن للصهيونية والكيان “الإسرائيلي”، وبلغة وثقافة القرآن، وتعلن انتماءها الإسلامي الواضح للإسلام كمنهج حياة بقيادة حركة دينية مستقلة مسلحة، ما جعلها متفرّدة من بين أخواتها من حركات التحرر العربية، فكيف إذا أضيف لذلك أنها باتت متحالفة عملياً مع ثورة التحرر الإيرانية المتمثلة بالثورة والجمهورية الاسلامية، التي يناصبها المحيط العربي الرسمي العداء المعلن، إلا مَن رَحِم ربي…
المفارقة العجيبة واللافتة هنا هي انّ اليمن هذا عندما كان ملكياً كانت الكيانات المحيطة به محميات بريطانية، وعندما صار جمهورياً، كانت الكيانات المحيطة به قد أصبحت ملكية رجعية أميركية.
وعندما رفع راية الإسلام والمعاداة لليهود تحوّلت تلك الكيانات من خلال التطبيع الى مستعمرات صهيونية!
ولكن عوداً إلى بدء للمقدمة التي قلنا فيها إنّ اليمن لم يكن مهماً ومحورياً وأساسياً كما هو اليوم كيف ذلك ولماذا؟
لقد دخلت مرحلة التحرر اليمني الوطني واحدة من أخطر وأهمّ وأدق لحظاتها بسبب دخول العالم ومعادلة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، لحظة تحوّل استثنائية يسجل فيها موت واندثار عالم ونظام دولي قديم، ونهوض وصعود عالم ونظام دولي جديد، وما زاد في دقة وحساسية هذه التحوّلات الاضطراب الناشئ في سوق النفط والغاز العالميين على خلفية الصراع الروسي الأطلسي الأميركي في أوكرانيا…
ما يجعل اليمن كموقع جيوسياسي ومع خصوصية حركة أنصار الله تحديداً، لاعباً استثنائياً هذه المرة في الساحة الدولية ومعادلات الدول الكبرى لا يعادل دوره ايّ لاعب آخر!
ما يعني أنّ أنصار الله اليوم لم تعد مجرد عنصر يمني أساسي في تحديد مستقبل النظام السياسي اليمني، ولا حتى مجرد لاعب مهمّ وأساسي في مستقبل الأمن في المضائق والخلجان والمياه الدولية اليمنية او المحيطة بها…
بل إنها باتت لاعباً أساسياً ومهماً في تحديد سعر النفط والغاز العالميين، وحركة النقل العالمية لهاتين المادتين الأساسيتين…
ايّ انّ حركة الصاروخ اليمني الباليستي والمُسيّرة اليمنية، التي تضرب أرامكو أو أبو ظبي أو دبي بإمكانه وبإمكانها ان تغيّر مسارات نقل الطاقة وأسعارها، ناهيك عن قدرتها على منع حصول اصطفافات معينة هنا او تساهم في تشكل تحالفات مضادة لها هناك!
ودائماً وأبداً، المساهمة في تحديد مسار حركة الصراع العربي ـ “الإسرائيلي” ومستقبل الصراع بين محور المقاومة الناهض والصاعد، وتحالفات محور الشرّ الإقليمي والدولي المتقهقر والمتراجع المدعومة أميركياً.
انه دور ومشروع يمني استثنائي لم يمرّ على تاريخ اليمن منذ مملكة سبأ.
انها السنن الكونية التي تؤمن الخائفين وتنجّي الصالحين وترفع المستضعفين وتضع المستكبرين وتهلك ملوكاً وتستخلف آخرين.