اللامعقول
نسيب أبو ضرغم
عودتنا سياسة الأعراب على ابتداع سياسات أقل ما يقال فيها إنها لامعقولة، ذلك أن المعقول هو ما يقره العقل وفق منظومة القيم والمصالح القائمة.
إنّ أغرب لا معقول قدّمته السياسة العربية الرسمية بمعظمها ، مقولة «الأمن القومي العربي». ليس لأن هذه المقولة غير معقولة بذاتها، فهي من المسلمات في السياسات الدولية، إذْ لكل دولة أو أمة أو مجموعة سياسة شيء من الأمن يندرج حتى يصبح بمرتبة الأمن القومي.
إن الغريب في الأمر، هو أن هذه المقولة غابت عن دوائر السياسة العربية عقوداً مديدة، يومَ كان العرب بأمسّ الحاجة إلى تفعيلها في مواجهة عدوان اليهود على دول عربية عديدة، ناهيك عن أخطار وجودهم في الأساس في فلسطين على الأمن القومي.
في حوادث اليمن الأخيرة، راحت وتيرة طرح «الأمن القومي العربي» ترتفع من قِبل دول الخليج وفي مقدمها السعودية، على اعتبار أن الحوثيين إذا ما قدر لهم السيطرة على اليمن فإنهم يشكلون بذلك خطراً على «الأمن القومي العربي»، وهم بذلك يشيرون إلى موقع اليمن الجيوـ استراتيجي، على اعتبار أن إيران سوف تكون المهيمن على هذا المسطح الجيو ـ اسراتيجي بما فيه باب المندب، ومعنى هذا أن إيران تكون قد أمسكت باثنين من أصل ثلاثة أهم معابر مائية في العالم إضافة إلى ممر ملقة.
اللامعقول في الأمر، عقدة النقص المتحكّمة في هذه الأنظمة والتي تعيش عقدة انعدام القوة والخوف من الآخر، لذلك نرى الخليج بدوله كافة مع تمايز ملحوظ لسلطنة عُمان، يعيش حالة رهاب من إيران، في وقت يستطيع هذا الخليج بما يملك من إمكانات مالية أن يبني دولاً قوية تجعل من اليمن معطى جيو ـ استراتيجياً يقع في خانة الأمن القومي العربي، لو كانت هذه الأنظمة تتصرف أساساً على قاعدة احترام الشعوب ومصالحها، لا على قاعدة استعبادها واستلحاقها.
واللامعقول الآخر هو السكوت المطلق عن الأخطار الحقيقية على الأمن القومي العربي، الأخطار التي يشكلها وجود قواعد أميركية وفرنسية مدعومة بوجود يهودي واضح، وذلك في جيبوتي والصومال. هذه القواعد «المثلثة الأبعاد» خطراً، الأميركية والفرنسية و«الإسرائيلية»، لم تشكل في نظر السعودية وحلفائها خطراً على «الأمن القومي العربي».
كذلك، ومنذ كانون الأول عام 1995، قامت أريتريا بالاتفاق مع الرئيس أسياس افورقي باحتلال جزيرة حنيش الكبرى وعادت فاحتلت جزيرة حنيش الصغرى عام 1996، علماً أن هاتين الجزيرتين هما جزيرتان يمنيتان، ومن المعروف العلاقة المتينة بين أسياس افورقي و«إسرائيل»، وما يتأسّس عليها من وضع لهاتين الجزيرتين بتصرف «إسرائيل». علماً أن «إسرائيل» كانت في مرحلة الحكم الشيوعي لأثيوبيا، برئاسة هيلامريام وقبله هيلاسيلاسي، وعمدت إلى تطبيق خطة استراتيجية متكاملة لها في منطقة باب المندب والضفة الأثيوبية من البحر الأحمر.
إن الخطة الاستراتيجية «الإسرائيلية» تقضي بأن تضع «إسرائيل» قدمين لها في المنطقة، واحدة في البر الأثيوبي، تشكل لها منطلقاً لتمدد سياستها داخل القارة الأفريقية، خاصة من البوابة الخلفية للعرب في أفريقيا ـ السودان، والثانية في مياه البحر الأحمر، حتى يكون هذا البحر ممسوكاً بالآلة العسكرية «الإسرائيلية»، إن من الشمال عبر إيلات أو من الجنوب عبر الجزر الواقعة شمال باب المندب…» من مقالة نشرتها في جريدة «الديار» بتاريخ 16/8/1996 :
«لقد أقدمت «إسرائيل» أيام الحكومة الشيوعية في أثيوبيا، ومن منطلقات استراتيجية على الوجود في جزر «فاطمة» و«دهلك» الاستراتيجية الواقعة «جنوبي البحر الأحمر..» من المقالة ذاتها المشار إليها أعلاه .
لم يُخدش الأمن القومي العربي، من وجود قواعد صاروخية وعسكرية «إسرائيلية» في عدد من الجزر تتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.
لم يتأثر «الأمن القومي العربي»، من تغلغل «إسرائيل» في شرق أفريقيا، خاصة الحبشة، وما أدراكم ما الحبشة، التي على يديها سيدمر وادي النيل بفعل التخطيط «الإسرائيلي» سد النهضة بداية التدمير .
أن تحتل «إسرائيل» جزراً سعودية في خليج العقبة وتحولها إلى نقاط تجسّس وأمن ودفاع، فليس في ذلك من ضرر على الأمن القومي العربي.
أن يدفع مبلغ مئة مليار دولار لتدمير سورية حتى الآن، فليس في ذلك خطر على الأمن القومي العربي. أنْ تُموّل المنظمات الإرهابية لضرب الشعب العراقي وتدمير دولته، فليس في ذلك أيضاً خطر على الأمن القومي العربي.
أن تجتاح «إسرائيل» لبنان عدة مرات، وتدمر غزّة أربع مرات، فليس في ذلك خطر على الأمن القومي العربي.
وقع الخطر فجأة، عندما طرد الشعب اليمني عملاء الرياض، وأخرجوا اليمن من تحت العباءة السعودية.
وقع الخطر عندما، استشعرت «إسرائيل» بأن باب المندب التي ظنت إلى حين أنه تحت حمايتها، أصبح معبراً لا تتحكم فيه، بلى، إن في ذلك خطراً، ولكن على «إسرائيل».
اللامعقول ألاّ يرى الرئيس المصري وجود «إسرائيل» وأميركا وفرنسا في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر خطراً على الأمن القومي العربي، ويرى في وجود قوة يمنية خطراً محدقاً بمصر ووجودها.
يجب أن تعترف بقدرة الخبث اليهودي، تلك القدرة التي تحول عداء أمة من أن تكون ضدها إلى أن تضرب بسيفها.
اللامعقول، والمأسوي، والجارح، أن القبضات العربية تضرب بسيف يهوذا الرقاب العربية.
إن الحرب على اليمن دشّنت نموذجاً جديداً من حروب اليهودية العالمية علينا. لن تقاتلنا «إسرائيل» مباشرة بعد اليوم. بل أكثر من ذلك، لن تخسر على قتالنا دولاراً واحداً. المعادلة واضحة: المقتول منا، والقاتل منا، والمموّل منا، منا من يتكفل بتحطيم جيوشنا، وإنجازات شعوبنا، ومنا من أخذ على عاتقه استعادة «أمجاد داحس والغبراء» بـ«عاصفة حزم»، استولدها اللامعقول في الزمن اللامعقول والمكان اللامعقول!
الأمر يتجاوز اللامعقول إلى الجنون. لنأخذ مصر، مصر المهدّدة بالعطش والفناء بسبب «إسرائيل» وفعلها في السياسة الحبشية، مصر المهدّدة بقنالها، عبر إقفال البحر الأحمر باب المندب بالقوّة «الإسرائيلية».
مصر المهدّدة بقنالها عبر مشروع القناة «الإسرائيلية»… مصر هذه لم تر تهديداً لـ«الأمن القومي العربي» من ذلك لكنه، ولكنها سترسل جيشها ليضرب أحرار اليمن. أحرار اليمن خطر على «الأمن القومي العربي»!
وهل في الأمر معقول!
يا أمة أنِفت من ذلها الأمم.