عالم الاجتماع المشتبك…
د. محمد سيد أحمد*
لقد أثار فضولي حديث دائر بين عدد من علماء الاجتماع ـ المصطلح هنا مجازيّ ـ المصريين على أحد مواقع التواصل الاجتماعي حيث تمّ إنشاء مجموعة مغلقة على المتخصّصين بهدف الحوار وتبادل الخبرات والاستفادة من المنجز العلميّ الذي ينتجه أعضاء المجموعة المنضوية تحت هذا التخصّص، وبالطبع يبدو الهدف نبيلاً والأمر محموداً، وبما أنني لست عضواً في هذه المجموعة فقد نقل لي بعض الأعضاء مشادّة حامية بين بعض الأعضاء نتيجة أنّ أحدهم قام بعملية نقد اجتماعيّ شديدة لبعض السياسات الحكوميّة، فقام المشرف على المجموعة بتوجيه رسالة يحذر فيها من الخوض في القضايا العامة خاصة السياسيّة، مؤكداً بأنّ المجموعة بذلك تخرج عن الهدف الذي أنشئت من أجله، وانتقل الحوار إلى الدور الذي يجب أن يقوم به علماء الاجتماع داخل أيّ مجتمع.
وهنا وقبل الخوض في الحديث عن الدور المنوط بعلماء الاجتماع داخل مجتمعهم تجدر الإشارة إلى ضرورة التفرقة بين العالم العضوي والعالم غير العضوي، وإذا اعتبرنا علماء الاجتماع جزءاً من النخبة المثقفة داخل المجتمع فيمكننا الاعتماد على تعريف الفيلسوف الايطالي أنطونيو غرامشي للمثقف العضوي والذي يرى أنه بما يمتلكه من علم ومعرفة يميّزه عن أعضاء المجتمع فهو بذلك يمثل حالة متقدّمة من الوعي، ضمن المجتمع الذي يعيش فيه، ووعيه المتقدّم على أفراد مجتمعه يحمّله باستمرار مسؤولية تاريخية، تتمثل في الإسهام، في تجديد الفكر، بما يخدم مشروع التقدّم والنهضة في بلاده. وهو ما يعني أنّ دور المثقف هو عدم الانكفاء، والتقوقع والتشرنق بالأبراج العالية، بعيداً عن مجتمعه وآماله وتطلعاته، وبذلك يكون المثقف هو ضمير وطنه الذي يجب أن يلتزم بهموم الناس وقضاياهم لأنّ أيّ اهتمام خارج هذا السياق يُعدّ ترفاً فكرياً محضاً.
ووفقاً لذلك يمكننا القول إنّ عالم الاجتماع العضوي يجب أن يكون مشتبكاً مع هموم الناس وقضاياهم الملحة، في حين أنّ عالم الاجتماع غير العضوي هو ذلك الشخص المنكفئ على ذاته والمتقوقع والمتشرنق بالأبراج العالية بعيداً عن مجتمعه وما يدور فيه من أحداث وما يتطلع إليه الناس من آمال وطموحات في العيش الكريم، لذلك يمكننا القول إنّ عالم الاجتماع العضوي يجب أن يكون مثقفاً عضوياً على حدّ تعبير غرامشي، فعلى الرغم من علمنا بأنّ علم الاجتماع الغربي قد نشأ في أحضان السلطة وظلّ الكثير من علماء الاجتماع على مدار تاريخ هذا العلم يدورون في فلك السلطة بعيداً عن مصالح الجماهير الشعبية، بل كانوا دائماً ما يبرّرون أفعال الحكام الظالمة لشعوبهم، وكان الكثير منهم يلعب دور ناصح الأمير أو مستشاره، لذلك كان التقييم الحقيقي لهم بأنهم علماء اجتماع غير عضويين، لكن على الرغم من ذلك ظهر بعض علماء الاجتماع في تاريخ هذا العلم وقفوا دائماً على يسار السلطة محاولين نقد سياساتها وتصويب قراراتها من منطلق انحيازهم لمصالح الجماهير الشعبية بهدف تحقيق التقدّم والنهضة لمجتمعهم.
ويقودنا هذا النقاش إلى طرح مفهوم العبودية الطوعية والذي تحدّثنا عنه في بعض المقالات السابقة، فقد ظهر المصطلح لأول مرة في كتابات الفيلسوف والمحامي والقاضي والكاتب الفرنسي إتيان دي لابويسيه منذ ما يقرب من خمسة قرون، وهو مؤسّس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، وأول من أوجد النظرية الفوضوية، وعلى الرغم من دراسة لابويسيه للقانون إلا أنه كان مولعاً بالشعر والأدب، لكن تظلّ مقالة «في العبودية الطوعية» من أهمّ أعماله إنْ لم تكن الوحيدة التي اشتهر بها ليس خلال حياته القصيرة لكن بعد وفاته.
وفي مقالة «العبودية الطوعية» يهاجم لابويسيه النظام الملكي المطلق ويصفه بالطغيان ويدعو لمكافحة الديكتاتورية، وفي حديثه عن العبودية الطوعية يؤكد أنّ الطغاة لديهم السلطة لأنّ الشعب أعطاها لهم، فعندما يتمّ التخلي عن الحرية مرة واحدة من قبل الشعب، ويبقى متخلياً عنها حيث يفضّل الشعب الرقّ على الحرية وعلى رفض الهيمنة والانصياع. وبالتالي يربط لابويسيه الطاعة والهيمنة معاً، وهى العلاقة التي كوّنت مع مرور الوقت النظرية الفوضوية، والتي تدعو لإيجاد حلول للتخلص من الهيمنة والانصياع ورفض دعم الطاغية. وبذلك أصبح لابويسيه أحد أقدم دعاة العصيان المدني والمقاومة بلا عنف، وهي ما نتج عنها ذلك الشعب الفرنسي الذي يرفض الهيمنة والانصياع للحاكم مهما تحققت له من سبل الرفاهية، فهو مواطن يطمح دائماً إلى مزيد من الحرية، ولديه من الوعي ما يمكنه من ممارسة العصيان المدني والمقاومة بالعديد من الطرق السلمية.
وعلى العكس تماماً فإنّ العبودية الطوعية، كما طرحها لابويسيه تظهر عندما يتعرّض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتلاءم وتتكيّف مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسمّيه «المواطن المستقر»، وهذا المواطن المستقرّ لا يشتبك مع واقعه، وغير قادر على النقد، ولا يهتمّ بالشأن العام، ولا يتدخل في الأمور السياسية، وخاضع ومنصاع طوال الوقت لهيمنة السلطة الحاكمة، وغير قادر على المعارضة وغير راغب في المقاومة.
وما ينطبق على المواطن المستقرّ يمكننا أن نطبّقه على عالم الاجتماع المستقرّ الذي لا يسعى للاشتباك مع واقعه، ولا يهتمّ بالشأن العام، ولا يتدخل في الأمور السياسية، وهو خاضع طوال الوقت للسلطة الحاكمة ولا يسعى لنقدها أو مخالفتها في الرأي، والطامح دائماً إلى المناصب، لذلك وصفناه في مطلع المقال بعالم الاجتماع غير العضويّ، بل ووضعنا كلمة عالم اجتماع في وضعية الاعتراض واعتبارنا استخدامنا للمفهوم استخداماً مجازياً لأنّ علماء الاجتماع العضويين في مجتمعنا قليلون للغاية بل يكادون أن يكونوا نادرين، وهم من يستحقون أن نطلق عليهم علماء الاجتماع المشتبكين، اللهم بلغت اللهم فاشهد.