«كاريش» و»سلام يا مهدي»… يعرّيان مدّعي لبنان بلداً للتنوّع والإشعاع الثقافي
خضر رسلان
تشكّل لبنان من خلال مختلف الحضارات وعلى مرّ العصور بدءاً بمستوطنات العصر الحجري مروراً بالدول الفينيقية، وصولاً إلى القلاع الصليبية والمساجد المملوكية والحمامات العثمانية، حيث امتاز هذا البلد بتنوّع ثقافاته، وتقاليده، ودياناته التي تداخلت مع الزمن، فالمساجد المقبّبة والكنائس «ذات البروج العالية»، تعكس تراث البلد الديني والهندسي ـ وللمسلمين (السنة، والشيعة، والدروز، والعلويين وو..)، وللمسيحيين (الموارنة، والأرثوذكس الشرقيين، والروم الكاثوليك والانجيليين وغيرهم… ولكلّ منطقة لبنانية نكهتها الخاصّة، التي تحافظ فيها على تقاليدها بما فيها الدين والثقافة.
الثقافة تُعرّف على أنها مجموعة من الأنماط المشتركة من السلوكيات والتفاعلات، والتراكيب المعرفية التي يتمّ تعلّمها من خلال التنشئة الاجتماعية، وغالباً ما يشير مفهوم التنوّع الثقافيّ إلى تنوّع المجتمعات الإنسانية وثقافاتها في دول العالم المختلفة التي يمتاز أفرادها بالعديد من الاختلافات الثقافيّة، ويظهر أكثرها وضوحاً في اللغة والعادات والقيم، إضافة إلى كيفية تنظيم الأفراد والمجتمعات لتصرفاتهم المختلفة التي تشتمل على الفهم والتطبيق المشترك لمفهوم الأخلاق والمعتقد الديني وهذا خلاف ما انتهجته شرائح لبنانية محددة وبعض مبدعيها ورثة الأفكار والتصورات البالية للفكر النازي، فقسّموا البشرية الى عرق راقٍ وأعراق متدنية؛ بحيث انّ مجدهم هو المحتكر الحصري للعزة والمجد…
وعلى هذا السياق ومن هذا المفهوم العنصري خرجت نظريات وأُرجوزات الجهابذة وتصريحاتهم المدوزنة على إيقاع إسفافاتهم في أمرين اثنين، أحدهما انتهج الشحّ المعرفيّ مسلكاً والتقوقع الكياني فلسفة على أثر انتشار أنشودة «سلام يا مهدي» التي تفاعلت معها شرائح تنسجم ثقافياً مع ما تحمله من مضامين، والأمر الآخر الموقف الأخير لسماحة الأمين العام لحزب الله وما أعقبه من ردود لبعض من ينوؤون تحت أثقال الارتهان السافر لمن يعملون على سرقة ثرواتنا الوطنية.
1 ـ أنشودة «سلام يا مهدي» ومناهضة التطبيع:
لطالما تغنّى الكثيرون بالتنوّع الثقافي اللبناني وبأنه مصدر غنى، فما الذي حدث وإلامَ يرجع سبب تصدّي البعض لهذه الأنشودة؟ هل لإيقاعها الموسيقي أم لحضورها الجماهيري؟ فإذا كانت المعضلة في اللباس والزيّ والأداء وما تذرّع به بعض تلامذة المدرسة النازية اللبنانية الذين ينظرون الى المجتمع اللبناني كأعراق راقية وأخرى متدنية، فإنّ مظاهر عاشوراء الحسينية تتفوّق على ما عداها من حيث الزيّ وإقامة الشعائر وهي متجذرة في لبنان منذ صدر الإسلام، وهي ونظيراتها من شعائر دينية لدى مختلف طوائف لبنان تمثل مصدر غنى وتنوّع، لطالما تغنى به اللبنانيون، ففي المجتمع التعدّدي لا قيمة لأية مواثيق، ولا أمل في أيّ وحدة أو تقدّم، ما لم يتساوَ الجميع في حقّ الحرية وحقّ المساواة وحقّ العدالة، علماً بأنّ منظمة اليونيسكو الدولية أقرّت عام 1964 عبر دراسة أعدّها الباحث الاجتماعي كلود ستراوس بأن لا علاقة للتقدّم الاجتماعي بالأصول العرقية، «لكلّ حضارة منطقها الخاص، ليس هناك من حضارة راقية وحضارة متخلّفة».
«سلام يا مهدي» عرّت مدّعي لبنان بأنه بلد للتنوع والإشعاع الثقافي، لأنّ إشعاع هذه الأنشودة حين رتلت قصيدة الأمل بظهور المخلص الذي تنتظره كلّ البشرية، والذي دعت المنتظرين إلى التمهيد لظهوره من خلال ثقافة بناء القوة والاقتدار ورفض كلّ أشكال التطبيع مع هذا الكيان الغاصب، وبناء على هذا المفهوم فإنه صحيح ثقافتنا لا تشبه ثقافتكم التي تنوء تحت أثقال التبعية والارتهان السافر والنفاق الموصوف…
2 ـ خطاب الكرامة والتحصين:
توجه سماحة الأمين العام لحزب الله في خطابه الأخير الى جهات ثلاث كلّ من حيث موقعه، موجهاً رسائل أرخت بظلالها على الأحداث الجارية وكانت لها تداعيات على مجمل ملفات المنطقة:
أ ـ الجهة الأولى المخاطبة كانت الإدارة الأميركية ممثلة بالرئيس جو بايدن الذي يجول في المنطقة لأمر واحد وحصري وهو تأمين الطاقة لأوروربا تنفيذاً لوعوده بإيجاد البديل للغاز الروسي قبل الخريف المقبل، وقد أشار السيد نصرالله في ذلك الى انّ وسيطك غير النزيه لن يحقق ما تبغيه دون ان يحصل لبنان على حقوقه وثرواته واستجرار الكهرباء بعد كسر مفاعيل «قانون قيصر» الإجرامي.
ب ـ الجهة الثانية الكيان «الإسرائيلي» حيث الخطاب الواضح والحاسم ان لا مجال لاستفادة العدو من ايّ نقطة غاز قبل أن يحصل لبنان على حقوقه، وأنّ المقاومة جاهزة لكلّ الاحتمالات بما فيها المواجهة العسكرية، فالحرب وصوت المدافع ليستا أقلّ إيلاما وإيذاءً من حروب الحصار والتجويع.
ج ـ بالرغم من انّ السيد نصرالله حينما ناشد اللبنانيين وطالبهم بأن تتحوّل مسألة الحدود البحرية إلى قضية وطنية كبرى، لأنّ ما تحويه هذه المياه من ثروات من نفط وغاز هي ملك للبنان، وهي ملك لكلّ الشعب اللبناني، وهذه قضية تعني كلّ لبناني بمعزل عن أيّ تفصيل أو أيّ توصيف، يعني أياً تكن منطقته، أياً تكن طائفته، أياً يكن مذهبه، أياً يكن خطه السياسي، انتماؤه السياسي، أياً تكن الانقسامات الموجودة في البلد…
وبرغم توصيفه لهذه القضية الوطنية بأنها الأمل الوحيد لمعالجة كلّ هذه الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والحياتية والمالية والنقدية، وهو الأمل الوحيد لغدٍ أفضل، وانه في سبيل تحقيق هذه الغاية مستعدّون للمواجهة وتقديم الغالي والنفيس لانتزاع حقوقنا التي سيستفيد منها كلّ الشعب اللبناني، فقد انبرت حفنة من أدعياء السيادة الذين يعيشون تصحّراً سياسياً وارتهاناً فطرياً وامتهنوا قلب الحقائق الى القفز فوق كلّ ما يعزز منعة لبنان وقوّته بتصويب السهام الى قائد المقاومة خدمة للأهداف الأميركية في خطوة تعزز ما تفوّهوا به بأنّ ثقافتهم المبنية على الارتهان والانصياع للهيمنة الأميركية هي غير ثقافة المنعة واسترجاع الثروات والحقوق.
بالفنّ والسياسة تهاوى وتعرّى أدعياء التغني بالتنوع والإشعاع الثقافي.