ترسيم الحدود البحريّة للبنان بين السياسة والقانون…
العميد د. أمين محمد حطيط
عندما طرح الوفد اللبنانيّ موقفه في مفاوضات الناقورة التي نظّمت بشكل تفاوض غير مباشر بين لبنان والكيان الصهيوني المؤقت المغتصب لفلسطين، كان الطرح طرحاً قانونياً علمياً تقنياً لا محلّ فيه للسياسة والدبلوماسية، بل كان وبكلّ بساطة المخرج الذي قاد إليه تطبيق قانون البحار المعتمد دولياً برعاية الأمم المتحدة في العام ١٩٨٢ والذي انضمّ إليه لبنان في العام ١٩٩٤ ورفضته «إسرائيل» ولا تزال خارجه، لأنها لا تريد أن يقيّدها قانون، وطبعاً كان العمل أيضاً باتفاقية «بوليه نيوكمب» شرطاً لا بدّ منه لضمان حسن تطبيق قانون البحار لأنّ الحدود البحرية تتطلب لرسم خطها تحديد نقطة البدء على الشاطئ. وهذه النقطة هي نقطة بدء الحدود البرية أيّ نقطة اليابسة التي تلامس الماء.
وفي الحالة اللبنانية، فإنّ نقطة رأس الناقورة هي نقطة البدء التي تنصّ عليها اتفاقية ترسيم الحدود البرية بين لبنان وفلسطين، أما الخط وشكله فهو خط الوسط الذي ينص عليه قانون البحار، وبما أنّ في البحر صخوراً تكاد تشكل ما تدّعي «إسرائيل» بأنه جزيرة تغيّر في مسار الخط لصالحها، فإنّ قرارات محكمة العدل الدولية في قضايا مماثلة كافية للإجابة على الطرح «الإسرائيلي» ونسفه، وفي الخلاصة إنّ العمل بقانون البحار والتمسك باتفاقية «بوليه نيوكمب» والأخذ باجتهاد القضاء الدولي، أنّ العمل بكلّ ذلك واحترامه في قضية رسم الحدّ الجنوبي للمنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة يفضي الى إخراج الخط بين نقطة رأس الناقورة والنقطة ٢٩ في البحر باعتباره هو خط الحدود المبحوث عنه.
لكن «إسرائيل» وبدعم من أميركا، واستمراراً لرفضها لقانون البحار وامتداداً لسعيها واندفاعها لإسقاط الحدود الدوليّة والتنصّل من اتفاقية «بوليه نيوكمب» (لأجل ذلك تستعمل مصطلح الخط الأزرق بديلاً للحدود الدولية وهو خط وهميّ لا قيمة قانونيّة له وهو خط سقط في العام ٢٠٠٠ بمجرد الانتهاء من مهمة التحقق من الانسحاب «الإسرائيلي» من لبنان) إنّ «إسرائيل» هذه ترفض الحلّ القانوني وترفض مجرد النقاش به أو حوله لا بل ترفض مجرد التلويح به؟ وتصرّ على اعتماد حلّ سياسي للنزاع يوفر لها مصالح تفوق ما يمكن أن يعطيها قانون البحار الذي لم تنضمّ إليه ويعزز موقعها في تجاوز اتفاقية «بوليه نيوكمب» ويثبت جنوحها الى الخطوط السياسيّة الوهميّة بدلاً من الحدود القانونية الدولية.
ومن المؤسف انّ «إسرائيل» كادت ان تصل الى ما تريد بعد أن وضعت لبنان الرسمي بين خيارين إما القبول بالتفاوض وفقاً لشروطها واقتصار البحث فقط على تقاسم مساحة الـ ٨٦٠ كلم٢ الواقعة بين خطي ١ و٢٣، وهو تقاسم يفرض وفقاً لخط يقترب من خط هوف الذي رفضه لبنان سابقاً، أو خروجها من عملية التفاوض والتنصّل منها برمّتها والانصراف للعمل المنفرد من قبلها تنقيباً واستخراجاً في كامل المنطقة التي تدّعي ملكيتها بعد ضمان تنازل لبنان عن الخط الذي يمليه القانون أيّ الخط ٢٩ وعدم تمسكه بقواعد قانون البحار الذي ينص على خط الوسط، مترافقاً مع استمرار الحظر الغربي على لبنان في عملية التنقيب والاستخراج.
أقول كادت «إسرائيل» أن تحقق ذلك خاصة بعد جولة هوكشتاين الأخيرة، الذي غادر بعدها لبنان «مطمئناً» الى تنازل لبناني عن الخط ٢٩ وتنازل لبناني ضمني عما يوليه له قانون البحار واتفاقية «بوليه نيوكمب» وإخراج حقل كاريش من دائرة النزاع وتكريس لوضع تكون فيه «إسرائيل» قادرة على الاستثمار في البحر وفقاً لما تشاء يقابله عجز لبناني عن الاستثمار، أيّ بالاختصار تأخذ «إسرائيل» كلّ ما تريد ويُمنع لبنان عن أخذ أيّ شيء من حقوقه على حدّ ما قاله صراحة هوكشتاين للبنانيين «أنتم ليس لديكم أيّ شيء الآن، وأيّ شيء تحصلون عليه يكون أفضل من اللاشيء».
لكن المقاومة كانت بالمرصاد، وتصرّفت بشكل مدروس بدأته بإطلاق مُسيّرات الى حيث تنقب «إسرائيل» وتستعدّ للاستخراج من حقل كاريش وأتبعته بموقف واضح اتخذه الأمين العام سيد المقاومة يختصر بمعادلة استخراج ـ استخراج أو منع وحظر ـ منع وحظر للطرفين، ولأنّ «إسرائيل» تعرف قدرات المقاومة وأميركا لا تجهلها، لذلك فهم الطرفان أنّ خطة التهميش والمماطلة والاستخفاف والتسويف بالحقوق اللبنانية خطة فشلت، وانّ أيلول المقبل لن يشهد استخراج «إسرائيل» للنفط والغاز إذا كان لبنان ممنوعاً من ذلك، ما أعاد الحديث عن استئناف البحث مجدّداً عن حلّ سيحمله هوكشتاين في الأسبوع المقبل الى لبنان ليضمن لـ «إسرائيل» أمن عمليات الاستخراج في أيلول المقبل، وقبل وصول الموفد الأميركي في الأسبوع المقبل لإيجاد المخرج راجت او يتمّ التداول بعدة حلول أو لنقل يجري البحث في حلول معظمها سياسيّ ولا نسمع للأسف فيها أيّ حلّ قانوني.
وعليه نؤكد بأنّ الحلّ المتين والقوي هو الحلّ الذي يكون نتيجة لتطبيق القانون، ولا يمكن ان نأخذ بمقولة هوكشتاين واستخفافه بالقانون (قال هوكشتاين: «ليس المهمّ ما يحدّد لك القانون من حقوق، بل ما تستطيع أخذه أنت من هذه الحقوق المُدّعاة). فـ هوكشتاين لا يعمل في ظلّ القانون ولا يريد تطبيق القانون بل يتحصّن بالقوة والسياسة ويريد أن يرسم خطاً سياسياً ويهرب من الخط القانوني. وهنا يقوم التحدي أمام لبنان. فهل سيعرف لبنان الاستفادة من مصادر قوّته ليعطل خطة سلب حقوقه؟
قبل الإجابة لا بدّ من الردّ على وشوشات هنا وهناك تقول لماذا لا تقوم المقاومة بعمليّة الترسيم وتفرض الخط القانوني؟ والردّ هنا بسيط حيث انّ المقاومة أعلنت انها ليست بديلاً للدولة، وانّ الترسيم مهمة الدولة وهي قادرة عليه، ثم انّ هناك أمراً مهماً آخر حيث انّ أيّ حلّ مهما كان قانونياً ولمصلحة لبنان سيرسم خطاً بين منطقتين منطقة لبنانية وأخرى «إسرائيلية» ما يجعل «إسرائيل» في موقع من اعترفت له المقاومة بحق أو بمصلحة في أرض أو بحر وهو أمر يتنافى مع المبنى العقائدي والفقهي الذي تلتزمه المقاومة ويقيّد سلوكها في مواجهة الكيان الصهيوني رفضاً وإنكاراً لوجوده أصلاً، أما الدولة اللبنانية فمسارها مختلف حيث أنها عقدت مع العدو اتفاقية هدنة ١٩٤٩، وتجري مفاوضات غير مباشرة معه وتلتزم عدم الاعتراف به وعدم التطبيع معه، وهي تمسك بكلّ الضوابط في العلاقة معه وانّ ما تصل اليه وتحدّده من حدود يصبح من مهمة المقاومة للدفاع عنه دون أن تكون المقاومة قد التزمت بشيء حيال «إسرائيل» يقيّدها أو يمسّ ركناً من عقيدتها. ولهذا يكون من مصلحة الجميع ان تقوم الدولة بالمهمة منفردة ومتسلحة بكلّ مصادر القوة التي لديها ومنها المقاومة.
أما الترسيم الفعلي الذي يجب أن يسعى إليه لبنان، فينبغي ان يكون الترسيم القانونيّ الذي يعتمد قانون البحار واتفاقية ترسيم الحدود البرية واجتهاد القضاء الدولي، وأن تعرض الدولة عن الترسيم السياسي المطروح الآن والذي سيهدر الحقوق إذا كان الطرف الآخر «إسرائيل» والوسيط ـ الراعي أميركي ومدير العملية يهودي أميركي، وما هو مطروح الآن من ترسيم وفقاً لخط متعرّج قريب من الخط ٢٣ هو ترسيم سياسي واهن ليس فيه أيّ مكمن من مكامن القوة ولذلك ننصح الدولة بعدم الأخذ به خاصة أنّ بيدها اليوم قوة القانون وقوة الميدان ويجب أن تبدي قوة في الموقف الرسمي، فإنْ اجتمعت تلك القوى كلها سيكون للبنان القدرة على الترسيم القانوني والاستخراج الفعلي، أما إذا أهملنا القانون ولم نكترث بقوة الميدان ولم نبد قوة في الموقف الرسمي فإنّ الحقوق في الثروة ستضيع…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي.