السيد نصرالله وخطاب إعادة التأسيس بين الأربعين وعاشوراء
ناصر قنديل
– لم تخضع المقاومة التي يقودها حزب الله يوماً لعقدة حجم لبنان مساحة وعدد سكان وحجم موارد، وهي تخوض حربها مع الاحتلال، فكانت ثقتها بالنصر وسعيها إليه خير ناطق بلسان اليقين بأنها تنظر إلى دورها وموقعها في قلب حركة صراع مع كيان الاحتلال ومن خلفه الهيمنة الأميركيّة على المنطقة، بصفتها طليعة قتاليّة، لكن فكرية أيضاً، في أمة تتسع لتصير أمة إسلاميّة ممتدة بين نيجيريا وأفغانستان، وإن ضاقت تصير عربية بين المحيط والخليج، أو تكتفي في الظروف الصعبة بنواتها الصلبة المؤكدة بحدود سورية الطبيعيّة، وهذا سر أن السيد نصرالله لم ينهك حزبه ومقاومته بنقاش تعريف وتحديد الأمة، فبقي يردّد مصطلح الأمتين العربية والإسلامية مرتاحاً إلى توصيفه الفكري لمعنى الأمة، وإذا كان تحرير الجنوب عام 2000 محطة نضالية فارقة في مسيرة المقاومة، وترجمة التضحيات بالنصر، وإثبات جدوى خيار المقاومة وفشل ما عداه في تحرير الأرض، فقد أوضح شعار السيد حسن نصرالله من منصة نصر العام 2000 في بنت جبيل، «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت»، ماهية الشعار الذي تصوغه المقاومة كعنوان تدعو عبره الأمة إلى الانخراط في الصراع المقبل نحو إنهاء كيان الاحتلال وتحرير فلسطين.
– ما بنته المقاومة خلال المدة الفاصلة بين تحرير عام 2000 وحرب تموز 2006، كان فائض قوة يخدم هذا التحديد والترسيم للهدف والشعار، حيث تحوّلت المقاومة في لبنان إلى قيمة مضافة وفائض قوة في آن واحد لمهمة تفكيك الكيان، مرّة بقوة المثال، ومرة بنقل الخبرات والمقدرات، ومرّة بالإسناد ومعادلات الردع، خصوصاً بعدما مرّ على المقاومة ما يكفي من اختبارات أظهرت معها حسماً نهائياً لرفض أي إغراء تقدمه الظروف او تعرضه أطراف دولية أو إقليمية أو لبنانية لتسييل فائض القوة في الداخل اللبناني، سواء للتقدم خطوة نحو تسلّم السلطة، أو لتعديل موازين القوى بين الطوائف في تقاسم الصلاحيات والأدوار في النظام السياسي، وما بعد حرب 2006، صار عبثياً وسخيفاً كل كلام يتحدّث عن حكومة حزب الله في لبنان، وعن هيمنة حزب الله على الدولة اللبنانيّة، بينما مشروع حزب الله ومقاومته خارج هذا السياق كلياً، بحيث صار الحديث عن بُعد داخليّ لدور فائض قوة حزب الله عرضاً يقدّم له للتخلي عن دور فائض قوته في مواجهة الهيمنة الأميركية والعدوانية الإسرائيلية، وبات واضحاً أن هذا الحديث الذي يبدو في ظاهره تنديداً، هو في العمق إغرائيّ وإغراقيّ وتسويقيّ لإقناع الحزب بمقايضة فائض قوّته بتعظيم متاح لدوره في الداخل اللبنانيّ، بعدما صار هو يحسب منسوب قوته على حجم الأمة ومعركتها الكبرى نحو فلسطين.
– خلال عشريّة حروب الفوضى والإنهاك التي حاول الأميركيّ أن يملأ عبرها الفراغ الاستراتيجيّ الناتج عن فشل حروب الهيمنة في العراق وأفغانستان، نجح حزب الله ومقاومته بتسييل فائض القوة الذي امتلكه وعزّزه بعد حرب تموز 2006، وفي توظيف القيمة المضافة التي يمثلها حضوره السياسيّ والمعنويّ والأخلاقيّ، خصوصاً عبر إطلالات السيد نصرالله، لتحصين ساحات محوريّة في مشروع المقاومة من تداعيات حروب الفوضى والإنهاك، رغم الحجم العالي للتحدّي الذي مثلته الفتن المذهبيّة كأحد أبرز المضامين الفكرية والاستراتيجية في حروب الفوضى والإنهاك، ومثله التحدي الميداني الذي أظهر المشروع الأميركي قدرة في تظهيره عبر استخدام مبهر لتنظيم القاعدة والأخوان المسلمين، وتجنيد دول إقليميّة فاعلة بحجم تركيا والسعودية كركائز لهذه الحروب، ويمكن القول بثقة إن إفشال الخطة الأميركية لملء الفراغ بالفوضى والفتن كان أقرب الى الإعجاز. ولعل مشهد الصراع داخل الطائفة الشيعية في العراق الذي تظنه جماعة أميركا نصراً لها، خير مصداق على نجاح المقاومة بإسقاط خطر الفتنة المذهبية، بينما يقدم الانتصار العراقي على داعش بقوة الحشد الشعبي وخياره المقاوم كيفية تحويل فائض القوة الى قيمة مضافة، وتقدّم سورية مثالاً استثنائياً عن عمق الهزيمة التي لحقت بالمشروع الأميركي، ويقدم اليمن مثالاً باهراً عن كيفية تحويل التحدي إلى فرصة، بينما تأتي استعادة فلسطين مكانة الصدارة في اهتمامات المنطقة وهمومها وحروبها، علامة الفشل الاستراتيجيّ لحروب الفوضى والإنهاك، وبالتوازي علامة على حجم النصر الذي حققته المقاومة، وعلامة على انتقال المقاومة الى مرحلة جديدة.
– لا تبدو أربعينيّة تأسيس حزب الله مناسبة ذات إيقاع زمني، وهو لم يقم من قبل بإحياء ذكرى تأسيسه، فهي تأتي كأنها منصة لإطلاق مرحلة جديدة في مسيرة المقاومة وحزبها، ويظهر اندماجها مع إحياء عاشوراء هذا العام وانشودة يا مهدي التي أطلّت على المناخ الثقافي والسياسي كعنوان تعبويّ للمرحلة الجديدة، ثلاثيّة أرادها السيد نصرالله عنواناً للإعداد لمهمة هي أقرب إلى إعادة التأسيس، من جهة وضوح رؤية الدور والمكانة والمسؤوليات والمهام، بعد اكتمال عناصر التمكين والبناء التي حكمت الأربعين. فالمقاومة وحزبها على أبواب مرحلة جديدة عنوانها، نحو القدس، وعنوانها الفكري والعقائدي، تجذير فكر عاشوراء الاستشهاديّ، ووعد ملاقاة المهدي والمسيح الخلاصيّ التاريخيّ من مشروع الهيمنة والاحتلال، وهي ثنائية حزب الله العقائدية، لكنها هذه المرة تنتقل عبر «جهاد التبيين» من نواة قوامها بضعة آلاف يسبحون في بيئة حاضنة من مئات الآلاف، لتصبح مشروعاً لعقدنة وتنظيم جيش من مئات الآلاف واستنهاض بيئة من عشرات الملايين، وفق يقين، أنه يمكن من هذا البلد الصغير المعقد والمنقسم، أن تخرج قيمة مضافة لأمة من مئات الملايين تغيّر مصيرها وتعيد رسم مكانتها في التاريخ والجغرافيا، ولعل حروب الطاقة والتشبيك الإقليمي الاقتصادي واحدة من عناوين دور المقاومة في المرحلة المقبلة.