الأزمة السورية: عودة إلى البداية… وحقيقة فشل المؤامرة
د. فيصل المقداد
نائب وزير الخارجية السورية
حان الوقت للكتابة مرّة أخرى وأخرى حول حقائق الأزمة السورية التي بدأت قبل ما يزيد على ثلاثة أعوام، تنفيذاً لمخطط أميركي ـ غربي واضعه الحصري هو «إسرائيل»، بأهدافه وعناوينه كلّها. ولا يخفى في هذا الإطار الدور الذي قامت به بعض الأنظمة الخليجية أو العربية لتنفيذ هذا المخطط، سواءً في التمويل أو التسليح والإيواء والتسهيلات المطلوبة كافة، لإنجاح هذه المؤامرة وتقديم سورية أرضاً وشعباً وموقفاً على طبق من ذهب لـ«إسرائيل».
بلى، أصبح الأمر واضحاً ولا تخفى أبعاده إلاّ على البسطاء والمساكين، أما أصحاب المؤامرة فقد قرّروا أن يمضوا في مخططهم ولو كان ذلك على عظام السوريين وتاريخهم وممتلكاتهم ودماء أبنائهم وتدمير مصانعهم وآثارهم وطرقاتهم وأبنيتهم ومعتقداتهم وأديانهم… كما أنّ الحقيقة من جهة أخرى لا تخفى إلاّ على من فقد بصره وبصيرته، هذا إذا أحسنّا الظن بهؤلاء.
طيلة السنوات الثلاث الماضية، مارست الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وخاصة الفرنسيين، بتخطيط «إسرائيلي» طبعاً، أكثر أساليب الخداع والتضليل والكذب، للقول بأنّ الأزمة السورية تعود إلى خلفيات ترتبط بخلل في العلاقة بين فئات من الشعب والحكومة على حدّ زعمهم. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، وهل هناك في العالم حكومة واحدة تلبّي تطلعات مواطنيها كلّها؟
لو كان المنطق الأميركي والفرنسي والبريطاني صحيحاً في أسوأ الاحتمالات، ماذا يبرّر إذن وجود المعارضة في هذه الدول وأحرابها والانتخابات التي تجريها على نحو منتظم! أم أنّ ما ينطبق على سورية معيار آخر؟ إذ يحقّ للمعارضة رفع السلاح في وجه الوطن والمواطن. لو كان المنطق الغربي صحيحاً لماذا لا ترحل حكومات كثيرة ورؤساء كثر عن مسرح السياسة في الدول الغربية عندما تشير استطلاعات الرأي العام إلى أنّ شعوب بلدانهم فقدت الثقة بهم؟
عودوا إلى الأرقام التي تشير إلى أنّ هذا الرئيس في بلد يعتبر نفسه رمزاً للديمقراطية لا يحظى بأكثر من تأييد ربع شعب هذا البلد. أمّا في فرنسا على سبيل المثال، فقد وصل الغضب الشعبي ضدّ سياسات هولاند وحكومته وخاصة وزير خارجيته ومبعوثيه إلى ذروة فقدان الثقة بهم، فما يزيد على 85 من الشعب الفرنسي يقف ضدّ الرئيس وحكومته، إثر فشل عمله وعمل حكومته سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ناهيك طبعاً عن دول أوروبية أخرى كادت تصل إلى دول فاشلة لولا «فزعة» الدول الأخرى لنجدتها، وفرض شروط مذلّة عليها بذريعة تحسين الأوضاع فيها وإنقاذها وإبعادها عن الحروب الأهلية. وما أثار اهتمامنا هو أننا لم نر أن المعارضة في تلك الدول قد حملت السلاح ضدّ حكومتها، وأنه عندما قام البعض بأعمال الشغب فيها ردّت الحكومات بوحشية تامّة، مثلما حصل في شوارع لندن وبعض المدن الفرنسية…
لا نذيع الآن سرّاً إذا قلنا إنّ خطط الولايات المتحدة والغرب التابع لها وعملائها في المنطقة كانت واضحة لنا منذ سنوات عدة. وهل هناك من عاقل يؤمن حتى اليوم بأنّ ما يُسمّى الربيع العربي جاء هكذا لإصلاح ذات البين بين الحاكم والمحكوم في بعض الدول العربية؟
هكذا، ببساطة، يريد الغرب لنا الحرية والديمقراطية والتنمية والرفاه، وفي مقدّم ذلك تحرير الأرض العربية المحتلة وطرد «إسرائيل» منها! ومع ذلك، فإنّ هذه الطموحات التي تشكّل أهداف النضال العربي من أقصى موريتانيا وصولاً إلى أبعد جزيرة في الخليج العربي لم تظهر في هذا الربيع؟
لكن لا، إنّ هذه الخطة وضعتها «إسرائيل» وأمّنت لها التسويق الأميركي والأوروبي الغربي لتصفية القضية الفلسطينية، وأنا لا أشير هنا إلى دور الأنظمة العربية، خاصة في السعودية، في الانضمام إلى المخطط الصهيوني، رغم بعض المصالح المتطابقة مع المصلحة «الإسرائيلية» وبعض التباينات هنا وهناك، والتي ابتلعت ألسنة وعقول هؤلاء الأغبياء لأنهم لم يكونوا ساعة إلاّ على شعبهم المستضعف، بل إنّ دورهم انحصر في دفع المال بحيث يُقتل العربي بالسلاح العربي وبالمال العربي وبالإرهابي العربي والمسلم!
الخطة الصهيونية تقتضي تصفية فلسطين وقضيتها. هذا لا يمكن أن يتمّ إلاّ إذا تمّ القضاء على الجيش العربي السوري والجيش العراقي والجيش المصري. وإذا سألت ما هي الخطّة فواجبنا بلا تردّد هو إنجاز هدف الصهيونية باستيلاء الدولة اليهودية على 90 من أرض فلسطين، إن لم يكن عليها كلّها. و«الإخوان المسلمون» ومشتقاتهم هم المؤهلون تاريخياً للقيام بذلك، إضافة إلى الوهابيين الذين قتلوا أجمل ما في الإسلام وشوّهوا الدين الحنيف، وقاموا بتفريخ مجموعات إرهابية يضيع الباحث في أسماء قادتها وتنظيماتها المتأسلمة بدءاً من الشيشان وانتهاءً بإرهابيّي ثلاثة وثمانين بلداً في العالم أرسلت قتلتها لتدمير سورية وشعبها.
قد يستغرب بعض القرّاء ثقتنا بما نقول. ونحن نثق بما نقول، لأن محاضر الاجتماعات الأميركية ـ «الإسرائيلية» السرية مع «الإخوان المسلمين» موجودة بين أيدينا. وللمناسبة، فإنّ بعض الصحف قامت بنشرها. ولم نفاجأ كثيراً بما ورد في هذه المحاضر لأن الأميركي يقول فيها إنه فوجئ بالحرارة التي استقبل بها «الإخوان المسلمون» ورحّبوا بحضور الجانب «الإسرائيلي» لهذه الاجتماعات، التي تمّ فيها رسم الاستراتيجيات الخاصة بتسليم «الإخوان المسلمين» السلطة في البلدان العربية لأنّ ثقة «إسرائيل» بهؤلاء لا حدود لها. في أيّ حال، على كلّ من فوجئ بذلك إعادة التفكير. ألاّ يثبت ذلك الحمية التي يقتل فيها رجب طيب أردوغان زعيم حكومة «الإخوان المسلمين» في تركيا، شعب سورية والهجوم الذي يقوم به الآن إرهابيّوه على مدينة حلب الصامدة لتدميره ومنع الانتخابات الرئاسية فيها، والتصريحات التي يطلقها من دون خجل بأنه صاحب مبادرة الشرق الأوسط الجديد، وهو بذلك يزاود على إدارة جورج بوش الإبن ومحافظيه الجدد ووزيرة خارجيته سوزان رايس «معشوقة الربيع وعربه».
في أيّ حال، تتراجع حاضنة «الإخوان المسلمين» والوهابيين في سورية وخارجها بعد افتضاح أهداف الهجوم الإرهابي الإسلاموي، المنظم والمدعوم والموجّه من الدول التي تتشدق بمكافحة الإرهاب، خاصة أوروبياً وأميركياً، وما سقوط «الإخوان المسلمين» المدوّي في مصر إلا بداية الطريق.
كما انفضح أيضاً الهدف الغربي الذي يقف خلف تدمير الوطن العربي وليس سورية فحسب، ولمن ما زال يفكّر بصحة ذلك نقول أنظر إلى ما حدث في ليبيا وتونس ومصر واليمن والعراق وسورية والحبل على الجرّار. لكن الهدف الثابت أمام الاشتراكيين الفرنسيين، الذين لم يعد فيهم من الإشتراكية إلاّ إسمها، واليمين الفرنسي سواءً كان ساركوزي أو شيراك فهو واحد: العودة إلى الاستعمار ومناطق النفوذ.
صمدت سورية أسطورياً وانتصرت على هذا العدوان الإرهابي بأضلاعه الثلاثة الأميركية الغربية والأدوات العربية وإرهابيي العالم. وإذا كان هؤلاء أعدّوا أنفسهم للإجهاز على سورية وقيادتها الوطنية المؤمنة بقوّة شعبها وعقائدية جيشها الباسل والأصدقاء الإقليميين والدوليين، خلال أيام أو أسابيع قليلة، أو على الأكثر خلال أشهر لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، فإنهم قد فشلوا في تحقيق أهدافهم رغم أنّ العدوان لم ينته بعد.
الآن، ها هي سورية تعدّ نفسها لممارسة أبهى أشكال نتائج صمودها وانتصارها وحكمة قيادتها، والذي يتمثّل في إجراء انتخابات تعددية ديمقراطية وشفّافة لمنصب رئاسة الجمهورية والذي كان القضاء عليه في مقدم أهداف المؤامرة التي تتعرّض لها سورية.
بدأ أعداء سورية بإطلاق النار على الاستحقاق الرئاسي في سورية قبل مؤتمر جنيف وبعده، من خلال تعليمات الفريق الأميركي ـ البريطاني ـ الفرنسي ـ السعودي والصغار من أتباعهم لفريق الائتلاف المفاوض، وبتنسيق تام مع المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي بعد القبول بمناقشة أيّ موضوع على جدول أعمال جنيف الواسع، سوى آليّة تسليم الحكم للقتلة والإرهابيين، في حين يعرف هؤلاء ومشغّلوهم أنّ إدارة البلاد ستذهب حكماً إلى «داعش» و«جبهة النصرة» و«الجبهة الإسلامية» التي تنسّق مع هؤلاء القتلة، إلا أنهم فشلوا في ذلك أيضاً. إنّ سورية هي التي فتحت الباب أمام جنيف لمناقشة بيان جنيف كما تمّ اعتماده بأولوياته التي تقضي بوقف العنف والإرهاب أولاً، مروراً بثاني وثالث ورابع وخامس وسادس الأولويات، وصولاً إلى مسألة تشكيل حكومة وطنية موسعة سابعاً. لقد فشلوا، بلى، وسيفشلون، لأنّ سورية شعباً وجيشاً وقيادة كانوا لهم بالمرصاد ولأنهم يفتقدون المبادئ أولاً ويمارسون الكذب والتضليل ثانياً ويفتقدون أولاً وأخيراً الأخلاق والقيم، فهؤلاء الغربيون القتلة ليسوا أحفاد أولئك الذين آمنوا بمبادئ الحرية والمساواة والأخوّة. فاسألوا من هم!
أخيراً، أتوجّه إلى صحيفة «البناء» لمناسبة ذكرى ولادتها الخامسة لكي أعبّر عن تقديري لهذا الصرح الإعلامي الديمقراطي الحرّ والملتزم. إن إطفاء شمعة «البناء» الخامسة هي الدليل على حاجة قارئنا العربي إلى منبر إعلامي يحترم مشاعره ويتفهّم قضاياها ويقدم إليه الخبر الصحيح، والتحليل الموضوعي. فألف مبروك لـ«البناء» ولكلّ القائمين عليها.