المجتمع الدولي والتدجين… من القرى السبع الى الدمج والتوطين
خضر رسلان
تتردّد عبارة المجتمع الدولي على ألسنة الكثيرين، وفي وسائل الإعلام المختلفة. وتتكرّر العبارة إلى درجة الظن بالفعل انّ هناك مجتمعاً دولياً، ومن المفروض مراعاته والوقوف عند متطلباته.
يعطي بعض فقهاء القانون الدولي تعريفاً لمصطلح المجتمع الدولي على أنه جميع الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وقبلها في عصبة الأمم، وكلّ دولة عضو فيهما هي تلقائياً عضو في المجتمع الدولي.
السؤال الذي يطرح نفسه هل كانت فلسطين ولبنان من المجتمع الدولي، أم أنهما كانتا على هامش هذا المجتمع؟ لقد تربّعت دولتان استعماريتان على أراضيهما، أصدرتا قراراً أممياً (وهذا يطرح سؤالاً يتعلق بمدى شرعية ميثاق الأمم المتحدة نفسه) بإزالة فلسطين باسمها وأهلها عن الخريطة. أما لبنان فقد تمّ التلاعب في حدوده كما في قراه وجباله ووديانه وبترسيم متكرّر، بحيث انه كان كلّ فترة يتمّ قضم جزء منه ونقله من الوصاية الفرنسية الى البريطانية حيث قطعان المستوطنين الصهاينة. ومع الوقت أضحت الحدود واقعاً ملزماً، ومن يعانده يكون قد خرج عن نطاق الشرعية، فهي أصبحت قدراً، ويترتب على المخالف التجريم والعقوبات.
فإذا تحدثنا عن لبنان الواقع تحت الانتداب الفرنسي أحد أركان المجتمع الدولي نجد انّ هذه الدولة المستعمرة بالتضامن والتكافل مع المستعمر البريطاني في فلسطين هما أول من خرق القوانين الدولية الناظمة التي لا تجيز للدول المستعمِرة ان تتلاعب وان تغيّر معالم الدول المستعمَرة سواء كان ذلك من الناحية الجغرافية او الديمغرافية.
القرارات التدجينية التي اقترفتها ولا تزال دول ما يسمّى بالمجتمع الدولي كثيرة جداً، إلا أننا سوف نسرد ثلاث محطات منها تخص الكيان اللبناني:
1 ـ دولتا «الانتداب» الفرنسي والبريطاني تتلاعبان بالجغرافية اللبنانية
خسر لبنان بين تاريخ إعلان دولة لبنان الكبير في 1 أيلول/ سبتمبر 1920 واندحار «إسرائيل» عن مُعظم الأراضي اللبنانية العام 2000 نحو 172 كلم2 على الشكل التالي:
ـ شريط القرى السبع وأخواتها (120 كلم2).
ـ الشطر الغربي من مزارع شِبْعا (36 كلم2).
ـ الأراضي التي احتلَّت العام 1949 (16 كلم2).
ومن المفارقات انه لدى ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين تولَّت المُفوضيّة العليا الفرنسيّة سنة 1922 تحديدها بالتفاوض مع السلطات البريطانيّة المُنتدَبة على فلسطين. وقد تساهلت سلطات الانتداب الفرنسيّة كثيراً في رسم هذه الحدود التي كانت تتمثَّل بخطّ مُستقيم بين الناقورة وشرق بحيرة طبريا. ولكن في المُباحثات بين دولتيْ الإنتداب، فرنسا وبريطانيا، كانت الوكالة اليهوديّة تُشرف، إلى جانب السلطات البريطانيّة في فلسطين، على رسم هذه الحدود متراً متراً إذا صحّ التعبير، ولم يكن للجانب اللبناني أيّ وجود عند تخطيط تلك الحدود. ولذا بَدَل الخطّ المُستقيم الذي كان مرسوماً في السابق، واستطاع البريطانيّون، إرضاء للوكالة اليهوديّة وتحقيقاً لرغباتها، إقامة «نتوءة» عند الحدود الشرقيّة شملت سهول الحولة وبحيرة طبريا ومياه الأردن وقسماً من الروافد اللبنانيّة والسوريّة. ويجدر بالإشارة إلى أنّ نسبة كبيرة من مالكي سهول الحولة كانوا آنذاك من اللبنانيّين.
مع مرور الزمن وما يحويه من أحداث وفتن وحروب ورغم الوثائق التاريخية الدامغة نجح الصهاينة وأعوانهم في تدجين الدولة والشعب اللبناني وإفراغ ذاكرتهم حتى من حق المطالبة باسترجاع هذه الحقوق المسلوبة.
2 ـ التوطين وإلغاء حق العودة
بالرغم من أنّ جميع القرارات الدولية تؤكد على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم وممتلكاتهم كحق إنساني متجرد، وأنّ القرار 194 ورغم أنه توصية صادرة من الجمعية العامة لمجلس الأمن بهدف التنفيذ، فقد بقي حبراً على ورق، وبالتالي يعود السؤال ليطرح نفسه بمدى شرعية ميثاق الأمم المتحدة أو بصورة أوسع، شرعية القانون الدولي.
انّ الذي يعمل عليه حالياً وبشكل علني وواضح بين الصهاينة وما يسمّى المجتمع الدولي ودول عربية كثيرة هو تدجين الذاكرة الجماعية من خلال إلغاء حق العودة كلياً، وتوطين اللاجئين حيث ما هم، ولبنان ليس بمنأى عن ذلك.
3 ـ دمج النازحين السوريين مشروع ممنهج ومشبوه
بعد نجاح الخطة المرسومة من قبل الصهاينة وأعوانهم في تدجين الذاكرة التاريخية وبرمجتها وفق ما هو مطلوب منها لا سيما في موضوعي الأراضي المسلوخة عنوة من لبنان، سواء من قبل دولتي الانتداب او من الاحتلال الصهيوني، لا سيما أراضي القرى السبع، وبعد النجاح في التكريس الواقعي لإلغاء حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين وجعل أمر إقامتهم في لبنان رغم عدم توطينهم أمراً مألوفاً تتجه الكرة في الوقت الحالي إلى مشروع تدجين جديد للذاكرة إلا أنها تبدو من الأخطر لأنها تمسّ ماهية الكيان اللبناني وتركيبته، وهو العمل على دمج النازحين السوريين ضمن المجتمع اللبناني وذلك رغم انّ الكثير من المدن والأرياف السورية يسودها الأمن والاستقرار، ويبدو لافتاً الزيارات المكوكية للمسؤولين الأمميين والغربيين الذين يحثون على الدمج، ويرصدون الأموال والإمكانيات الضخمة لتحقيق ذلك، وفي هذا الإطار كانت لافتة زيارة وزير التنمية الدوليّة الكندي هارجيت ساجان الى لبنان وطلبه بشكل واضح وصريح من المسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم العمل الحثيث لدمج النازحين السوريين ضمن المجتمع اللبناني، وذلك بدل السعي مع الدولة السورية على تسهيل عودتهم الى ديارهم وهذا ما يعزز الهواجس والريبة مما يحاك ويرسم في الآتي من الأيام.
لا زالت بلادنا منذ بداية القرن العشرين مرتعاً وملعباً تنفذ على أراضيه الخطط والمشاريع باسم المجتمع الدولي ويُراد منها الاستمرار في التسلط على بلادنا ونهب ثرواته. إلا انّ الهواجس المترتبة على طلب دمج النازحين السوريين يتعدّى ذلك الى ما هو أشدّ خطورة على أصل وجود الكيان اللبناني ودوره ووظيفته. يحدث هذا في ظلّ صمت مريب يعتري الكثير من القوى والشخصيات التي تدرك جيداً ما يُحاك وما يُرسم. والأشدّ غرابة انخراط العديد منهم في التسويق والترويج لهذا المشروع الخطير.
حمى الله لبنان وشعبه وجيشه ومقاومته التي يزداد عليها الرهان في الحفاظ مجدّداً على بقاء لبنان ارضاً وشعباً وكيانا!