السياسة الخارجية الأميركية تراكم الكوارث
زياد حافظ*
يقول العالم الفيزيائي ألبرت أينشتاين أنه قد يكون للكون حدود بشكل افتراضي بينما غباء الإنسان لا حدود له لا افتراضياً ولا فعلياً. وعلى ما يبدو تُثبّت يوماً بعد يوم الإدارة الأميركية الجزء الثاني من مقولة أينشتاين. فبعد الكارثة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي عمّت التحالف الأطلسي بسبب سوء التقدير القاتل في استدراج روسيا إلى مواجهة عسكرية في أوكرانيا تقوم الولايات المتحدة بتكرار سوء التقدير في استفزاز التنين الصيني وكأنها لم تتعلّم من الدرس الاوكراني. وهي لم تتعلّم من درس أفغانستان ولا من درس العراق ولا قبل ذلك من فيتنام وكوريا. فعلى ما يبدو كلّ مبادراتها محكومة بنفس الذهنية المغامرة والمقامرة التي لا تستند إلى وقائع لتبرّر تلك السياسات. وهذا يؤكّد مقولة الجنرال الفيتنامي جياب الذي هزم الأميركيين في حرب تحرير فيتنام عندما سُئل عن رأيه في الولايات المتحدة فقال بالفرنسية: «إنهم تلاميذ غير نجباء» (ce sont de mauvais élèves) أي لا يتعلّمون من أخطائهم.
فشل مهمة بيلوسي!
فزيارة رئيسة مجلس الممثلين في الكونغرس الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان تشكّل آخر مَثل عن سوء التقدير القاتل الناتج عن جهل وعدم إدراك للأمور وعن عنجهية لا مثيل لها في التاريخ المعاصر. فتوقيت الزيارة وهدفها ومضمونها كانت كافية لضمان فشل المهمة. وهذه الزيارة تأتي على أعقاب زيارة فاشلة للرئيس الأميركي لبلاد الحرمين ما يدعم وجهة النظر أنّ الولايات في أفول استراتيجي دون أيّ أفق للعودة إلى التحكّم بالمسرح الدولي.
فبالنسبة للتوقيت أتت هذه الزيارة أولاً على أعقاب التدخّل الأميركي في أوكرانيا لاستدراج العملية العسكرية الروسية وإطالة الحرب فيها لاستنزاف وإضعاف روسيا على حدّ تصريحات المسؤولين الأميركيين بغية إحداث انقلاب في روسيا ضدّ الرئيس بوتين. وقد حاولت الولايات المتحدة أن تفرض على الصين التخلّي عن تحالفها الاستراتيجي مع روسيا وإدانة العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا. كما أنّ المسؤولين الأميركيين لم يخفوا يوماً رغبتهم في إحداث تغيير للنظام في الصين عبر فرض العقوبات ومحاولات بائسة لعزل الصين عن المحيط الآسيوي وعلاقاتها مع أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وبالتالي يمكن التساؤل لماذا الصين ستلبّي الرغبات الأميركية؟
وسلوك المسؤولين في الإدارة الأميركية منذ بداية ولاية بايدن كان مليئاً بالأخطاء التي تكرّرت في كلّ مناسبة جمعت المسؤولين الأميركيين مع نظرائهم الصينيين بدءاً من الخارجية الأميركية ووصولاً إلى الرئاسة. فكانت الدبلوماسية الأميركية تتسم دائماً بوعظات وإملاءات وتحذيرات وتهديدات للصينيين ما جعل الصينيين يفقدون صبرهم تجاه الأميركيين. وقد عبّروا مراراً وتكراراً أنّ ذلك الأسلوب غير مقبول ولن يسكتوا عنه ولكن كلّ التحذيرات الصينية لم تلقَ آذاناً صاغية في الإدارة الأميركية التي لا تكترث لما يقوله أو يفعله الآخرون. أضف إلى كلّ ذلك، جاءت زيارة بيلوسي على أعقاب الفشل الأطلسي، أيّ الأميركي، في أوكرانيا. فماذا كانت تتوقع بيلوسي؟
عدد من المراقبين يعتبرون أنّ الزيارة كانت بدوافع ذاتية لأنّ بيلوسي تسعى إلى إعادة انتخابها في الكونغرس الأميركي في تشرين الثاني 2022 وأنّ حوالي ثلث الناخبين في كاليفورنيا منحدرون من أصول صينية. فتعتقد بيلوسي أنّ زيارة تايوان سيزيد من رصيدها الانتخابي ويؤمّن فرص نجاحها رغم تقدّمها في السنّ وظهور معالم تراجع القدرات العقلية. وهناك من يؤكّد أنّ بيلوسي من الصقور الذين يعتبرون الصين عدواً وجودياً للولايات المتحدة فقامت بمحاولات عدة لمنع دخول الصين المنظمة العالمية للتجارة. وهناك أيضاً من يعتبر أنّ زيارة بيلوسي لو «نجحت» (دون تحديد معايير «النجاح») فهذا مكسب وإذا فشلت فلا علاقة لإدارة بايدن بها. هذه ألاعيب لم ولن تمّر على القيادة الصينية فهي تعي أنّ إدارة بايدن غير صادقة حيث اتهم الرئيس الصيني جي بينغ الرئيس الأميركي في آخر لقاء افتراضي أنه «غير صادق» ولا ينفّذ وعوده. ونذكّر بأنّ اللقاءات المتعدّدة للمسؤولين الأميركيين في الخارجية الأميركية مع نظرائهم الصينين انتهت بفشل ذريع وتبادل التهم.
أما بالنسبة للهدف الفعلي فلا يمكن إلاّ الوصول إلى نتيجة واحدة وهي استفزاز الصين واستدراجها على مواجهة عسكرية في تايوان وفي المحيط الهادئ. فالزيارة لمسؤول رفيع أميركي لمقاطعة من الصين تُعتبر دبلوماسياً تجاهلاً انّ تايوان جزء من الصين والسياسة المتفق عليها منذ السبعينات من القرن الماضي هي نظرية «صين واحدة وسياسة واحدة». الإدارة الأميركية أرادت استفزاز الصين لتحقيق نصر استعراضي إعلامي موقّت يمكن توظيفه داخلياً في الولايات المتحدة من قبل إدارة ديمقراطية مأزومة تواجه هزيمة حتمية ساحقة في الانتخابات النصفية المقبلة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022. والاستفزاز يكمن في زيارة مسؤول أميركي رفيع المستوى لمقاطعة صينية دون الرجوع إلى الدولة المركزية ما يشكّل انتهاكاً واضحاً للسيادة وللأصول. بهذه الطريقة تعبّر الولايات المتحدة أنها تمسك بزمام المبادرة وأنها تستطيع أن تفعل ما تريد دون أي محاسبة أو مساءلة.
أما على صعيد المضمون فهو تشجيع عناصر صينية في تايوان على المطالبة بالاستقلال عن الجمهورية الشعبية في الصين ما يشكّل تمرّداً على الدولة الأمّ المركزية. وقد أعلنت حكومة بكين تكراراً أنّ ذلك يشكّل خطأ أحمر لا تستطيع تجاهله بل تستدعي إجراءات فورية لضمّ تايوان إلى الجمهورية الشعبية في الصين ما يشكّل «عدواناً» صينياً في نظر الولايات المتحدة على تايوان. وهناك من يشابه التحريض الأميركي في تايوان بتحريضه في أوكرانيا سنة 2014 والذي انتهى بانقلاب أنهى العلاقة مع روسيا. فهل تعتقد الإدارة الأميركية بإمكانها تكرار السيناريو الأوكراني رغم الفوارق الكبيرة بين الحالتين والتي لا داعي لمناقشتها هنا لضيق المجال.
لكن ماذا كانت نتائج تلك الزيارة؟ الهدف الوحيد التي تمّ تحقيقه هو استفزاز الصين. لكن لم تتوقع الولايات المتحدة الردّ الصيني وهو اتخاذ القرار لاسترجاع تايوان ولو بالقوة العسكرية وإنْ لم تكن محكومة بفترة زمنية لتحقيق ذلك. وهذ الردّ القرار يشبه الردّ الإيراني على اغتيال قاسم سليماني حيث الردّ المناسب هو إخراج الولايات المتحدة من المشرق. والسياسة الإيرانية، ومعها محور المقاومة يعملون على ذلك. أما بالنسبة للصين فهناك سلسلة إجراءات عملية اتخذتها الصين تمهيد لاسترجاع تايوان. أهمّ تلك الإجراءات الحصار الذي تفرضه على الجزيرة. لا يجب أن ننسى أنّ حجم التجارة الخارجية الصينية التايوانية أكبر من تجارة تايوان مع الولايات المتحدة. فآخر الإحصاءات تشير إلى أنّ التبادل التجاري بين الصين وتايوان تجاوز 188 مليار دولار. والصادرات من تايوان للصين تشكل 42 بالمائة من صادراتها بينما صادراتها للولايات المتحدة لا تتجاوز 15 بالمائة من إجمالي الصادرات التايوانية. إضافة إلى ذلك فإنّ تايوان تستثمر بشكل مكثّف في الصين حيث وصلت قيمة الاستثمارات في الصين وهونغ كونغ أكثر من 190 مليار دولار. فالحصار الذي تفرضه الصين على تايوان قد يحرم الأخيرة من متنفس اقتصادي لا يمكن التعويض عنه. تايوان تنتج ما يوازي 75 بالمائة من رقائق الحاسوب (computer chips) عالمياً وتصدّر معظمها للصناعات الصينية. غير أنّ الصين بدأت منذ بضعة سنوات تصنيع تلك الرقائق وتنويعها للوصول إلى الاكتفاء الذاتي وعدم الانكشاف للخارج. لكن في حال استرجاع تايوان تصبح الصين متحكّمة في التكنولوجيا الحديثة وتستطيع فرض بضائعها على العالم.
الصين كثّفت المناورات البحرية في بحر الصين كما كثّفت مناوراتها العسكرية مع روسيا. ويعتبر البنتاغون هذه المناورات تمهيداً لاحتلال محتمل لجزيرة تايوان. وليس من الواضح أنّ الولايات المتحدة ستتدخل لـ «حماية» تايوان إلاّ أنّ السيناريو الأكثر ترجيحاً هو تسليح تايوان ودفعها للمواجهة العسكرية مع الصين. فهل تمتثل تايوان وتكرّر المحاولة العبثية التي حصلت مع أوكرانيا في مواجهة روسيا؟ ليس واضحاً ما هو القرار الذي يمكن أن تتخذه القيادات التايوانية فنحن في مرحلة ترقّب وانتظار، والصين ليست مستعجلة على حسم الأمور وإنْ كانت قد اتخذت القرار بتوحيد تايوان مع باقي الصين أسوة بما حصل مع هونغ كونغ. وعلى ما يبدو فإنّ الصدى الدبلوماسي لزيارة بيلوسي كان سلبياً في دول شرق جنوب آسيا. وتشير مجلة «فورين بوليسي» على موقعها إلى أنّ مجموعة دول شرق جنوب آسيا وقفت إلى جانب بكين وإنْ عبّرت بأشكال مختلفة عن يقين موقفها. فالحلفاء الآسيويون التقليديون لم يوافقوا على تلك الزيارة باستثناء أستراليا التي تلعب في الصراع الصيني الأميركي دور المملكة المتحدة في الصراع الروسي الأطلسي. فالغرب يُختزل بمجموعة الدول الانجلوسكسونية أيّ الولايات المتحدة، كندا، المملكة المتحدة، أستراليا، ونيوزيلندا بعدما كان يضم معظم الدول العالم التي كانت تناهض الاتحاد السوفياتي.
إخفاق بايدن في الرياض!
تلازماً مع الزيارة الفاشلة لنانسي بيلوسي إلى تايوان هناك إخفاق ربما أكبر بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية وهي زيارة الرئيس الأميركي لبلاد الحرمين. وكانت هناك تساؤلات عدّة طُرحت قبل زيارة بايدن والنتائج المرتقبة لها. وبعد أكثر من مرور شهر على تلك الزيارة تكوّنت صورة في الولايات المتحدة كما في عواصم العالم أنّ الزيارة كانت فاشلة جدّاً ليس لما لم تحقّقه بل لما كشفت من توجّهات جديدة للمسؤولين في بلاد الحرمين، وخاصة بالنسبة لولي العهد. فعدم استجابة حكومة الرياض للرغبات الأميركية في زيادة الإنتاج النفطي لتغطية النقص في العرض من جرّاء مقاطعة الاتحاد الأوروبي للنفط والغاز الروسي كانت صفعة للإدارة الأميركية لم تكن تتوقّعها. وهذا السوء في التقدير لموقف المملكة دليل من بين غابة من الدلائل. فموقف بلاد الحرمين لم يكن «ابن الساعة» بل كان ممهّداً له منذ 2016 خاصة بعد قمة العشرين في هانغزو في الصين. فعلى هامش الاجتماعات كان اللقاء بين الرئيس الروسي بوتين وولي العهد حيث اتفقا على فرض الاستقرار في سوق النفط. والعديد من الخبراء آنذاك اعتبروا أنّ ذلك التفاهم هو تفاهم تكتيكي بينما عدد قليل من الخبراء كالسفير الهندي السابق أم. كي. بهدراكومار أشار إلى ما سمّاه «مفعول الفراشة» أو (butterfly effect) حيث حدث صغير قد لا تكون له أهمية واضحة في لحظة حدوثه إلاّ أن نتائجه تكون كبيرة على المدى المتوسّط والطويل. وهذا الاتفاق المبدئي الذي حصل عام 2016 تثّبت في ما بعد. وما أصدرته حكومة الرياض بعد زيارة بايدن لها حول أولوية تثبيت الاستقرار في سوق النفط عبر التفاهم ضمن منظومة أوبك+ أكّد أنّ زمام المبادرة لم يعد بيد الولايات المتحدة. والجدير بالذكر أنّ المؤتمر القومي العربي آنذاك ومنذ ذلك الحين يستشرف زمن المراجعات السياسية لدى الحكّام العرب. واليوم نشهد التقارب بين حكومة الرياض والصين وروسيا والجمهورية الإسلامية في إيران.
إضافة لكلّ ذلك هناك الزيارة المرتقبة للرئيس الصيني لبلاد الحرمين حيث سيتمّ البحث في انضمام المملكة إلى منظومة بريكس ومنظمة شنغهاي. ولكن الأهمّ من كلّ ذلك ما هو مطروح على جدول الأعمال أيّ البحث في مشاركة بلاد الحرمين في تكوين سلّة من العملات كنقد احتياطي للمدفوعات الدولية. فإذا تمّت مشاركة بلاد الحرمين فذلك يعني النهاية الفعلية لهيمنة الدولار على المدفوعات الدولية. فما يمكن أن يتبع كلّ ذلك تسعير السلع الاستراتيجية كالنفط والغاز أو القهوة أو القمح أو أيّ سلعة لها الطلب العالمي الكاسر بعملة غير الدولار. هذا يعني انخفاضاً كبيراً في الطلب على الدولار وتقويض قدرة الولايات المتحدة على طباعة الدولار دون حدود لتمويل مغامراتها العسكرية في العالم.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي
والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي