نقاط على الحروف

معادلات بري بين الغاز والألغاز

 ناصر قنديل

 

لا يمكن قراءة خطاب رئيس مجلس النواب نبيه بري في ذكرى تغييب الإمام السيد موسى الصدر، بمعزل عن الخلفية الشعبية التي وفرت للخطاب حضوراً كافياً ليتحدث بري بلغة اللاعب القادر، الذي لم تهزه عاتيات «ثورة 2019»، ولا زال المدّ الشعبي الذي يستند إليه أكبر من أن يتيح لأحد التحدث عن دوره السياسي كمكبر صوت لموقف حزب الله، فنبيه بري لا يزال نبيه بري اللاعب السياسي الأول في معادلات لبنان واستحقاقاته، والتحالف مع حزب الله ثابت وراسخ في الاتجاهين، لكنه تحالف الأقوياء، وتحالف ليس فيه أول وثانٍ، وإذا كانت معادلة ترسيم الحدود تستند إلى فائض القوة الذي يختزنه حزب الله، ويمنحه دوراً حاسماً في رسم المعادلة، فإن موقع بري في رئاسة المجلس من جهة، وقدرته الأوسع من حزب الله على نسج التحالفات مع الكتل النيابية من جهة ثانية، وقدرته على التفاعل مع الخارج من جهة ثالثة، أسباب تجعله اللاعب الأول في الاستحقاق الرئاسي، على قاعدة أن القرار النهائيّ قرار مشترك تتخذه قيادتا حركة أمل وحزب الله معاً، بخلاف ما حدث عام 2016، عندما خاض حزب الله معركة إيصال العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، وقرّر بري التصويت بورقة بيضاء، بعدما كان أحد الداعمين لترشيح رئيس تيار المردة النائب السابق سليمان فرنجية.

في ملف الغاز ومصير مفاوضات ترسيم الحدود، ثلاث نقاط أكد عليها بري، الوقت غير مفتوح، المسؤولية على الأميركي لأن التأجيل الاسرائيلي لا يبرر عدم رفع الحظر عن قيام الشركات المعنية ببدء العمل في الحقول اللبنانية، والأمر الثالث هو أنه على الحكومة فتح الباب لنقل التلزيم الى شركات جديدة إذا تلكأت الشركات المعنية عن البدء بالعمل، وهذه النقاط تلاقي معادلات حزب الله التي أكد عليها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، لجهة التحذير من إضاعة المزيد من الوقت، وأولوية التنقيب والاستخراج على الترسيم، وفيما يضيف السيد نصرالله ضلعاً ثالثاً لهذين الضلعين هو التهديد بقوة المقاومة، يلاقيه بري بالتحذير من أن خيار المواجهة لا يزال على الطاولة دفاعاً عن سيادة لبنان وثرواته، بما يعني تأكيد المؤكد حول درجة التكامل في المواقف والتنسيق على طبيعة تقاسم الأدوار كل في مواقع قوته، للهدف الواحد.

بعد الغاز فتح بري قارورة الألغاز، فلم يترك مجالاً للغموض إلا في الأسماء، ولغز الألغاز الرئاسة، فيحسم بري أولاً أنه لن يكون هناك خلاف هذه المرة بين حركة أمل وحزب الله في مقاربة الرئاسة، رغم إيراد الحديث عن «خيّطوا بغير هالمسلة» في مقطع آخر، وعدم الخلاف الرئاسي يبدو محسوماً هذه المرة ولو تباينت التقييمات للأطراف السياسية ومواقفها وأدوارها الرئاسية والحكومية، كالتباين المعلن حول العلاقة مع التيار الوطني الحر ورئيسه النائب جبران باسيل، وهو تباين ظاهر في «التلطيشات» التي مررها بري لباسيل، وبمثل ما لم يطلب بري من حليفه حزب الله ضمان تصويت نواب التيار الوطني الحر لصالح بري في رئاسة مجلس النواب، ولم يستخدم عنوان الميثاقية بالرغم من الإجماع الشيعي النيابي على ترشيحه وغياب أي مرشح منافس، فارتضى الاحتكام للتصويت وفقاً لما ينص عليه الدستور بدل المطالبة بالفوز بالتزكية، وخاطر بفرضية الخسارة في الدورة الثانية بنيل أقل من خمسة وستين صوتاً، فهو يقطع الطريق على أي طلب مشابه من باسيل لحزب الله، ما يمنح بري فرصة التحرّر من أي قبول أو تفهم لشعارات الميثاقية في انتخاب رئيس الجمهورية، لجهة الدعوة إلى اعتباره استحقاقاً يخص المسيحيين، وما على المسلمين إلا التصديق على نتائجه.

في الألغاز رسم بري خريطة طريق فكفكتها، ومدخلها ما ذكر به من نصوص دستورية، لا اجتهادات دستورية خارج النصوص إلا في ما يصدر من تفسير للدستور عن مجلس النواب عند الحاجة، ووفقاً للأصول المنصوص عليها في الدستور، والرئيس العتيد يحتاج حيثية مسيحية كما يحتاج حيثية إسلامية، والهدف هو بالحد الأدنى ضمان الفوز بالأكثرية المطلقة لخمسة وستين نائباً في الدورة الثانية، تعبر عن تلاقي هاتين الحيثيتين، ولتحقيق هذه الغاية أورد المواصفات، التي من بينها الموقف من المقاومة تحت عنوان اليقين الراسخ باعتبار «إسرائيل» تهديداً وجودياً للبنان، لكن فيها ما يعني استبعاد المرشحين الأوسع تمثيلاً على الصعيد النيابي بين المسيحيين، سمير جعجع وجبران باسيل، ولمن لم يستنتج من معادلة الرئيس الذي يجمع، أضاف له بري «لطشة» المرشحين الطبيعيين منعاً للالتباس.

فتح بري الطريق لاستدراج عروض المرشحين وإدخالهم في امتحانات القبول للتقدّم إلى ميزان المواصفات، وميزانه لم يعط أي إشارة لترجيح كفة أحد، رغم حفظ الفرصة أمام «مرشح طبيعي» تنطبق عليه نسبة عالية من المواصفات، من دون التزام مسبق بالأفضلية، وبالعودة إلى تاريخ الرئاسات منذ اتفاق الطائف، من المهم التذكير أن الرئيسين السابقين الراحلين رينيه معوض والياس الهراوي كانا مع النائب الراحل جان عبيد ثلاثي اللائحة المشتركة في التفاهم الأميركيّ السوري السعودي، وكان عبيد هو المرشح الفعلي لبري يومها وبعدها، وأنه رغم دعمه لترشيح العماد اميل لحود بوجه التمديد للرئيس الهراوي عام 1995، لم يكن من الذين سعوا لمجيئه عام 1998، ولا كان مع الذين تحمّسوا للتمديد له عام 2004، وان العماد ميشال سليمان لم يكن مرشح الرئيس بري وكان مرشحه الفعلي لا يزال جان عبيد، ولو أنه لم يكن معارضاً لوصول سليمان إلى الرئاسة ضمن تسوية الدوحة، أما معارضة بري لوصول العماد ميشال عون الى الرئاسة فلم تكن خافية، كما لم يكن خافياً دعمه لترشيح سليمان فرنجية، أما هذه المرة فيبدو بري مستعداً لمعركة رئاسية يكون عرابها، ولكن دون مرشح جاهز، بل للتشاور واستمزاج آراء، وجوجلة أسماء، ومطابقة مواصفات، وصولاً للائحة قصيرة تنطبق عليها مواصفات لم يقلها في خطابه يبنى عليها القرار المشترك لأمل وحزب الله، كما في كل القضايا الكبرى، يحضر في خلفيتها تحالف حزب الله مع التيار الوطني الحر من جهة، وتحالف بري وحزب الله مع فرنجية ونواب قوى الثامن من آذار من جهة ثانية، وتحالف بري مع النائب السابق وليد جنبلاط، والنواب الذين منحوا بري تصويتهم لرئاسة المجلس من جهة ثالثة، سعياً الى رئيس ينال أكثر من الأكثرية اللازمة، ولو لم تصل الى الثلثين، تأكيداً لتلاقي الحيثيتين المسيحية والإسلامية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى