الصين والتحوّلات في الخيارات الاستراتيجيّة في المشرق العربيّ
} زياد حافظ*
تتزامن التحوّلات الدولية والإقليمية والعربية مع مراجعات في الخيارات والسياسات في الوطن العربي بشكل عام والمشرق العربي بشكل خاص. وهذه المراجعات سيكون لها التأثير المباشر على توجّهات النظام الرسمي العربي سواء في ما يتعلّق بالأمن الإقليمي أو في العلاقات مع الغرب. فعلى ما يبدو هناك تنامٍ في وعي النخب الحاكمة العربية أن ملكية أوراق اللعبة لم تعد بنسبة 99 بالمئة للولايات المتحدة. والسؤال المطروح البديهي الناتج عن ذلك هل البوّابة لاكتساب «الرضى الأميركي» ما زال عبر الكيان الصهيوني؟
للإجابة على السؤال لا بدّ من الرجوع إلى التحوّلات الحاصلة في عدد من الدول العربية بشكل عام وخاصة في المشرق العربي. فهناك مجموعة من الدول والقوى الشعبيّة حسمت أمرها واعتبرت أنّ «التوجّه شرقاً» هو المنحى الاستراتيجي الذي يجب اتخاذه وبالفعل تمّ اتخاذه. وهذه الدول تشكّل محور المقاومة للكيان الصهيوني الذي له بعده العربي والإقليمي في آن واحد وربما في مستقبل قد لا يكون بعيداً البعد الدولي، حيث دول مثل الصين وروسيا وربما الهند قد تنظر إلى الكيان كمعرقل استراتيجي لمبادرة الطريق الواحد والوحدة الاقتصادية الأوراسية ومنظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة الأمن الجماعي وما يتفرّع عنها من مؤسسات سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية.
من جهة أخرى، بات واضحاً أنّ النخب الحاكمة في الغرب تسعى، ولكنها تفشل، إلى إعادة تكوين النظام العالميّ خارج إطار الذي تكوّن بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة حكم القانون الدولي المبني على قرارات مجلس الأمن للأمم المتحدة، والمعاهدات الدولية، وأحكام المحكمة الدولية، والقانون الدولي بشكل عام. ما تريده هذه النخب هو إحلال مكانه «نظام القيم والأحكام» الفاقد لأيّ قاعدة قانونية والتي تُجسّد رغبات الولايات المتحدة والدول الانجلوساكسونية التي تدور في فلكها عند الحاجة ومعها ودول أوروبا التي استسلمت للمشيئة الأميركية. لكن ما يهمّ الدول العربية في هذا التحوّل الدولي هو أنّ النخب الغربية بدأت تسلك طريقاً للتنمية لا يعتمد على النفط. فمنتدى الاقتصاد العالمي المعروف بمنتدى دافوس أطلق في 2020 مشروع إعادة التعيين الكبير الذي يتصوّر مجتمعاً دولياً خارج الوقود الحفريّ كما له تداعياته في هندسة المجتمعات والخروج عن موروثها الثقافي. لذلك نعتقد أنها فشلت وستستمرّ بالفشل وإن كانت النخب الحاكمة في الغرب في حال إنكار جماعي.
هذا يعني أنّ الدول العربية النفطية وخاصة في الجزيرة العربية ستجد نفسها أمام عالم غربي كانت قد تحالفت معه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكنه لم يعد يريد الوقود الحفري الذي تنتجه. هذه حقيقة موضوعية يصعب نقضها لأنها أصبحت جوهر سياسات الدول الغربية التي استغّلت الأزمة الأوكرانية وقبلها جائحة كورونا لسنّ قوانين وتشريعات وأحكام تؤدّي إلى الابتعاد عن اقتصاد يعتمد على الطاقة التي يولدها الوقود الحفري.
في المقابل نرى دولاً كالصين صاحبة مشروع دولي يتجاوز حدود القارة الآسيوية لضمّ كلّ من أفريقيا وأميركا اللاتينية تعتمد على الطاقة التي يولدها الوقود الحفري. وهذا المشروع قد يتطلّب تأمين الطاقة بأسعار مدروسة وعلى المدى الطويل. والصين قد تعرض عبر رئيسها زي شين بينغ في زيارته المرتقبة لبلاد الحرمين صفقة على مدى خمسين عاماً تؤمّن استقرار المبيعات النفطية لفترة طويلة خارج مشيئة الأسواق الفورية والمستقبلية التي تحدّد سعر النفط. وهذا يتناقض مع رغبة الرئيس الأميركي بايدن لدفع بلاد الحرمين لزيادة إنتاجها من النفط لتخفيض السعر وكبح التضخّم في الأسعار الذي يهدّد مشروعه السياسي الداخلي في الولايات المتحدة. فجاء الردّ بعدم إمكانية زيادة الإنتاج، واليوم القرار المشترك الصادر عن أوبك+ بتخفيض الإنتاج لرفع الأسعار. أين كانت الولايات المتحدة التي كانت تتحكّم بقرار بلاد الحرمين وأينها اليوم؟ كما أنّ هناك معلومات تفيد بأنّ ولي العهد السعودي يحبّذ إقران مشروع مدينته النموذجيّة «نيوم» بمبادرة طريق الحزام الواحد لما لكلّ من المشروعين من ارتكاز على التواصل الفائق السرعة (hyperconnectivity) ما يساهم في زيادة المسافة بين بلاد الحرمين والغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص.
في هذا السياق لا بدّ من الإشارة إلى ضخامة مشروع «نيوم» التي تقدّر كلفته بـ 500 مليار دولار. والمدينة النموذجية العملاقة على البحر الأحمر ستكون محطة الزيارة المرتقبة للرئيس الصيني زي بينغ لبلاد الحرمين. ومن ضمن المشاريع العملاقة المرتبطة بمشروع «نيوم» بناء سكّة الخط السريع التي تربط مكّة المكرّمة بالمدينة المنوّرة، أيّ خط قطار سريع طوله 450 كيلومتراً. وقد أنجزت الصين بناءه بكلفة تقدّر بـ 60 مليار ريال أو 16 مليار دولار وتبلغ سرعة القطار 300 كيلومتر بالساعة. هذه هي دبلوماسيّة سكك الحديد التي اعتمدتها الصين! ويُعتبر هذا الخط امتداداً للخط الذي يربط الرياض بمدينة الحديثة على الحدود الأردنيّة ما يجعل بلاد الحرمين شريكة في مبادرة الطريق الواحد. والجدير بالذكر أنّ افتتاح هذا الخط بين مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة سيتمّ في هذا الشهر أيلول/ سبتمبر ربما خلال زيارة الرئيس الصيني لبلاد الحرمين.
وهذه المشاريع تُضاف إلى مشاريع مشابهة تربط تركيا والجمهورية الإسلامية في إيران واثيوبيا وجيوبتي. كما أشارت مجلّة «ميد» البريطانية أنّ مشاريع بقيمة 16 مليار دولار ستشمل دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هذا وقد وافق مجلس التعاون الخليجي في 2021 على إنشاء شبكة خط سريع لسكة الحديد طولها 2100 كيلومتر وتغطّي الجزيرة العربية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وبكلفة 200 مليار دولار. فالصين تقوم بما ندعو إليه من تشبيك في سكك الحديد وقد تساهم في نهضة الأمة وبالتواصل الفائق السرعة عبر الممرّات الصناعيّة وشبكات سكك الحديد للخط السريع!
وهذه التطوّرات تستند إلى وقائع يصعب تجاهلها. فعدد سكّان المملكة وصل إلى 31 مليون نسمة وحوالي نصفهم من دون سنّ الـ 25 أيّ أنها دولة فتيّة بكلّ معنى الكلمة. وهذا الجيل الجديد في بلاد الحرمين كما في معظم الدول معنيّ بالتكنولوجيا الحديثة وبالتالي لا عجب أن يستهوي مشروع «نيوم» هذا الجيل.
وإذا كان مشروع السدّ العالي في الخمسينيات عنوان النهضة الاقتصادية في مصر وفي معظم دول المشرق العربي لما له من تداعيات على البنى الاقتصادية فإنّ المشروع التكنولوجي «نيوم» قد يحظى بالأهمية نفسها بغضّ النظر عن الملاحظات العديدة التي يمكن توجيهها له. لكن اهتمام قيادة الصين له أمر لا يمكن تجاهله ما يعطي حدّاً أدنى لاحتمالات إيجابياته. والمشروع قد يصبح «مختبراً» للتطبيقات التكنولوجية الحديثة على إعادة هندسة المجتمعات وطريقة الحياة. لا أحد يستطيع أن يتكهّن بما ستسفر عنه لكن إذا تمازجت التكنولوجيا الحديثة مع الموروث التاريخي في بلاد الحرمين والمنطقة العربية الإسلامية فتصبح آفاق المستقبل مفتوحة.
عودة إلى واقع الحال فإنّ التقارب الذي نشهده بين بلاد الحرمين والصين ليس خطوة منفردة بل يأتي في سياق سلسلة من القرارات يتوجّب التوقف عندها. فلهذه القرارات تداعيات على صعيد التحالفات القديمة القائمة والمرشّحة للتعديل ولصوغ شبكة تحالفات جديدة أكثر واقعية وانسجاماً مع التحوّلات في موازين القوّة على الصعيد الدولي والإقليمي. فالمعلومات تفيد أنّ التقارب في العلاقات مع الصين ارتفعت وتيرته بعد اللقاء الذي جمع الرئيس الصينيّ جين بينغ وولي العهد محمد بن سلمان على هامش قمة العشرين التي ُعُقدت في مدينة هانغزو الصينية في كانون الثاني/ يناير 2016 وتقرّر آنذاك زيادة التبادل التجاريّ والاستثمارات في البلدين. فهل هي صدفة أن يعلن ولي العهد رؤيته لبلاد الحرمين تحت عنوان «رؤية 2030» ومشروع «نيوم» في نيسان/ ابريل 2016 أيّ بعد ذلك اللقاء؟ البيان المشترك الذي صدر آنذاك يوكّد على تواصل الجهود المشتركة لتطوير مبادرة الطريق الواحد الحزام الواحد سواء على الصعيد البرّي أو على الصعيد البحري. كما أنّ الصين أعربت في ذلك البيان عن التزامها بتطوير البنى التحتية للدول العربية التي تريد مساهمة الصين فيها. ويعتبر عدد من المراقبين كماثيو اهرت وأم. كي. بهدركومار على سبيل المثال وليس الحصر أن التوجّه الإيجابي الذي يحصل في بلاد الحرمين مبني على الفطرة السليمة والجهود الهادئة لكلّ من روسيا والصين اللتين تسعيان إلى إقامة هندسة أمنية إقليمية وعالمية خارج الهيمنة الأميركية والغربية.
فالمؤشرات نحو هذا التوجّه عديدة نذكر منها فتح الحدود في 2020 بين بلاد الحرمين والعراق والدور العراقيّ الذي تقوم به لدفع الحوار مع طهران. وتجدر الإشارة إلى كثافة التصريحات الصادرة حول تقدّم الحوار وضرورتها لتثبيت الأمن في الخليج وفي الساحات الساخنة في المنطقة العربية. مؤشر آخر هو التشبيك في سكة الحديد بين البصرة وشلامشة والذي سيربط 1500 كم من السكة بين إيران وسورية ولبنان عبر العراق كجزء من مبادرة الطريق الواحد. والتحسّن في العلاقات بين طهران والرياض ناتج عن الجهود الروسية والصينية في إقناع الرياض أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران جزء من المشروع الأوراسي الكبير وشبكة سكك الحديد والطرق التي تخلق الممرّات الاستراتيجية بين شرق وغرب آسيا وبين شمالها وجنوبها بما فيها دول الجزيرة العربية. أيضاً لا بدّ من الإشارة إلى تحسين العلاقات مع تركيا بعد التوتر الشديد الذي ساد بين الدولتين وخاصة في الأزمة مع قطر.
الدور الصيني في التقارب مع بلاد الحرمين يعطي ثماره. فرئيس شركة أرامكو صرّح أنّ الأمن النفطي للصين هو رأس الأولويات للشركة. هذا يعني التوافق على تزويد الصين لمدة خمسين سنة بالنفط. وهذا يعني أنّ بلاد الحرمين لا تستطيع الاستجابة للطلبات الأميركية بتحويل نفطها من آسيا إلى أوروبا التي ستواجه أزمة خانقة بسبب العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا والعقوبات التي فرضتها أوروبا. فالأزمة قد تطيح باستقرار دول الاتحاد الأوروبي والتماسك السياسي والاجتماعي وربما تدخل أوروبا في ظلامية الفاشية الصاعدة والتحلّل الاقتصادي. الطلب الأميركي من بلاد الحرمين للتخلّي عن أوبك+ الشريك الأساسي لها في تأمين الاستقرار في سوق النفط من ناحية الإنتاج والابتعاد عن الصين كسوق أساسي (حوالي 25 بالمئة من الصادرات النفطية من بلاد الحرمين) إذا ما عجزت في زيادة إنتاجها النفطي طلب غير قابل للتنفيذ. أضف إلى كلّ ذلك أنّ خطاب الإدارة الأميركية الحالية وخاصة من قبل الرئيس تجاه بلاد الحرمين وولي العهد لم يعد مقبولاً في الرياض. وربما هناك رهان في الرياض أنّ الانتخابات النصفية الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 قد تأتي بأكثرية جمهورية في الكونغرس الأميركي قد تشلّ قدرة تحرّك البيت الأبيض على الصعيد الخارجي. كما أنّ تلك الانتخابات قد تمهّد لعودة الرئيس الأميركي ترامب إلى البيت الأبيض. لكن هذه الرهانات قد تعاكسها وقائع مادية على الأرض من تطوّرات وتقارب مع دول الكتلة الاوراسية ودخول بلاد الحرمين في منظومة «بريكس» وربما المشاركة في منظمة شنغهاي للتعاون. لكن لكلّ حادث حديث. فالمنحى الذي بدأ يتبلور قد يخلق واقعاً جديداً قد تتكيّف معه الولايات المتحدة دون أن تستطيع تغييره.
المنطقة العربية وخاصة في الجزيرة العربية دخلت مرحلة انتقاليّة ستتكرّس لدراسة التحوّلات في موازين القوّة وفي جدوى التحالفات التي نُسجت خلال العقود الماضية. لا نستطيع أن نجزم بأنّ الدول العربية ستقطع علاقاتها مع الغرب بشكل عام ولكنّها لم يعد باستطاعتها تجاهل العجز والإرباك في دول الغرب على مقاربة ومعالجة الأزمات المتعدّدة الأوجه سواء كانت صحّية، أو اقتصادية، او مالية، أو عسكرية أو سياسية. فالولايات المتحدة دخلت مرحلة لا توازن داخلي. فهي تشهد الآن أزمة حكم قد تتحوّل إلى أزمة نظام سياسي وقد تصبح أزمة كيان. وخلال هذه الفترة لم يعد باستطاعتها أن تبرز معالم قوّة سياسية وعسكرية واقتصادية ومالية جعلتها تمتلك 99 بالمئة من أوراق اللعبة. القوّة الفعلية للولايات المتحدة ليست ناتجة عن قدرات ذاتية بمقدار ما هي ناتجة عن ظروف خارج سيطرتها وهي العقل العربي الذي ما زال مؤمناً بقوة وهمية للولايات المتحدة. فهل تتعظّ النخب العربية الحاكمة وتعود إلى رشدها وتقرّ أنّ ملكية الأوراق بيدها وليس بيد الولايات المتحدة؟ المعيار الذي قد يجيب على ذلك التساؤل هو عودة سورية إلى الجامعة العربية بشروطها هي وليس بشروط الغرب.
*باحث وكاتب اقتصاديّ سياسيّ وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصاديّ والاجتماعيّ.