روتشيلد… طُموحٌ ماليٌ بلا حدود من فلسطينَ إلى أقصى الشرق
ميرنا لحود
إنَّ تسليط الضوء على مسألة غامضة دُفنت في طيات التاريخ، عملٌ ليس سهلاً بل تتخلله تعرّجات كثيرة. فيصعبُ إظهارُ المخفي لأنَّ الماكينة الإعلامية عمِلت، وخلال عقود، على طمس الحقائق والترويج لأكاذيبَ أصبحت في مكان ما نوعاً من «الثقافة أيّ الثقافة الرائجة والزائفة». إزالة أفكارٍ عقيمة مترسّخة في الذهن تحتاج إلى عمل دقيقٍ من الاجتهاد في علم التبين والمنطق والحجج والبراهين. فهو نوعٌ من «الجهاد». (فالله ُيحقُ الحقَ ويُبطلُ الباطلَ ولو كره المجرمون) (وما من شيء مستحيلٌ عند الله). إذن وبفضل الإيمان فللحقيقة مكانٌ في مجتمعنا المشرقي الشرقي وثقافتنا.
من خبايا التاريخ
جرت العادة أنْ يُكتبَ التاريخُ على أيدي المنتصرين في الحرب. فالحروبُ لسيت وليدة اشتباكٍ بين صالح من هنا وطالحٍ من هناك فقط. فسببها المباشر وفي أغلب الأحيان متصلٌ بالمال. إنَّ المال المكدّس بطريقة لاأخلاقية أيّ بالسرقة والاحتيال هو وراء كلّ تشرذمٍ في نسيج المجتمع. وكما يترعرع الغرب على شغوف السلطة والتسلط يذهب وبسهولةٍ إلى تحوير الأمور عن مسارها الحقيقي ويكدُّ على التأثير في عقول الجماهير ويفرض رأيه ببراعةٍ مبتعداً قدر المستطاع عن الوقائع ومعالمها. فالمواجهة هي مع خونة التأريخ (وإماَّ تخافنَّ من قومٍ خيانةً فانبِذ إليهم على سواء إنَّ الله لا يُحبُ الخائنينَ).
أحياناً يخرج البعض ليتلفّظ ببعض الحقائق فيُقمعَ ويُبعد وفي كثير من الأحيان يُقتَل. ومن منظار آخرَ فبعض الحقائق مدونةٌ في كنف التاريخ لكن إخراجَها للعلن يحتاج إلى مواكبة ثقافيةٍ حكيمةٍ حتى تدخل الذِهنَ وترتكز لأنها تساعد على اتخاذ قرارات قد تُنقذ من مذلات دهرية. النفاق والكذب يُسيئان للعقل والفكر والمنطق والتصرف والإنسانية ككل. (وَيْلٌ لكُلِّ أفَّاكٍ أَثِيمٍ).
بنيامين هاريسون فريدمان، كاتب من أصولٍ يهوديةٍ ومن عائلةٍ بالغة الثراء، ما سهّل عليه مخالطة شخصيات شريكة في صناعة القرارات في أميركا، كتب في كتابه تحت عنوان الاستبداد المخفي The Hidden Tyranny 1961 عن وقائعَ قد حُوّرت واستُخدمت في ما بعد وبشكل غير متطابق للواقع، وتسبّبت بإحداث تاريخ مغاير لحقيقية المنطقة والتي لا تزال تعاني من موجات حروب تهبّ في كلّ مرةٍ مشرّدة ومهجرةً وتقصي وتقتل عدداً من أبناء المنطقة ولا بدّ من القول «الأصليين». كُتمت الحقائق لأنّ عائلة روتشيلد، وهي من سادة المال، كانت تريد بسط سيطرتها على منطقة الشرق وبشكل قاطعٍ وبحريةٍ مطلقة. ولتأمين الثروة لقد راهنت عائلة روتشيلد على قناة السويس التي كانت تحت سيطرة الإمبراطورية البريطانية. وإذا كُفت اليد الإنكليزية عن قناة السويس فإنّ ذلك سيضع ثروة روتشيلد على المحكّ ويعرِّضُها لخسائرَ مالية ما لا تحتمله وجهة العائلة. لذا بدأت الأخيرة بوضع الخطط المحنّكة والمرتبطة باتفاقات شبه ثابتة ومن بينها اتفاقية 1916.
علامَ تنصُ هذه الاتفاقية التي يطلق عليها أيضاً اسم اتفاقية لندن؟
تقرُّ الاتفاقية على إعطاء فلسطين للحركة الصهيونية فور انتهاء الحرب. لكن «صهاينة» أوروبا لم يكونوا يمتلكون الأموال؛ والاستيلاء على فلسطين ليس سهل المنال ومسألة عدم توفر الأموال كانت مصدر قلقهم. فقد عرضت عائلة روتشيلد «مساعدة مالية بلا حدود» ما يسمح لأصحاب المال حق توسيع نشاطاتهم في المنطقة وبسط سيطرتهم. وفي المقابل كان على الصهيونية أن تنتظم في معسكر الإمبراطورية البريطانية.
ولتمكين الفكرة، لقد كان من الضروري لروتشيلد بناء قناة في فلسطين وهي قناة عسقلان على البحر المتوسط ويكون إمدادها إلى العقبة. «قناة حديثة البنية والهيكلية من الإسمنت وتمتلك خطين للملاحة. ويكون واقعها الجغرافي على بقعة خاضعة لسيطرة الإمبراطورية البريطانية لتنتفع أبدياً مما تستمتع به الإمبراطورية من منافعَ ونفوذٍ. وبذلك وفي نهاية المطاف تُعد قناة عسقلان عضواً من بريطانيا. ويطلق أيضاً على الاتفاقية «اتفاقية لندن». وهي بمثابة اتفاق مُبرم بين وزارة الحرب البريطانية ومنظمة الصهيونية العالمية. فلسطين للصهيونية في حال تحققت هزيمة ألمانيا. وقد كانت الصهيونية العالمية موالية لألمانيا بفضل «التحرر» المُقَر عام 1822 والذي بموجبه يتمتع اليهود في ألمانيا بكامل الحقوق والحريات التي يتمتع بها الشعب الألماني. في ذلك الوقت كانت أوروبا تستخدم نظام الحصص لليهود ولعدة قرون. وبالتالي، إعلان الحرب على ألمانيا هدفه الرئيسي تأمين فلسطين للصهاينة. ولتتحقق هزيمة ألمانيا كان لا بدّ من دخول أميركا أو بالأحرى توريط الأخيرة بحرب ضدّ ألمانيا.
فالرواية التي استخدمتها أميركا لتبرير شنّ حربها على ألمانيا كانت من الخيال المحض لا بل السريالي: جاء السرد على الشكل التالي «غواصة ألمانية قد أغرقت البارجة «أس أس سوسِكس» الأميركية S.S. SUSSEX في عرض البحر للشواطئ المقابلة لبريطانيا، ما أدّى إلى مقتل عددٍ من الأميركيين، ويتعارض ذلك مع القوانين الدُولية. إلا انَّ البارجة نفسها وفي مناسبات متفرّعة قد زارها عدد من الأشخاص والزوار ورأوا بأمّ العين وفحصوها وتفقدوها ما يدحض كلّ الكذب السائد». (قُل سِيرُوا في الأرض ثُمَّ انظُرُوا كَيفَ كَانَ عاقِبةُ المُكذبينَ).
«احتلت بريطانيا فلسطين من عام 1921 إلى عام 1948 تحت «انتداب» عصبة الأمم آنذاك. وقد أعلنت الصهيونية دولة صهيون في فلسطين ما أنهى وجود الإمبراطورية البريطانية على واقع الأرض. وبذلك لم يعُد يحقّ لا لفلسطين ولا للصهاينة أن يكونا عضواً من أعضاء الإمبراطورية المذكورة».
أدى هذا التغيير إلى إرغام روتشيلد على إعداد استراتيجية جديدة. لقد بدأ بممارسة الضغوطات على بريطانيا لمنح فلسطين للصهاينة والإعلان عن دولة سيادية. لذا كان لا بدّ من إنشاء ما يُسمّى بالأمم المتحدة وأصبحت الفكرة سريعاً حقيقة نافذة. ضغط روتشيلد «فوراً لقبول واعتبار فلسطين من داخل الأمم المتحدة» فأعطت الأمم المتحدة فلسطين الميزات نفسَها التي تمتعت بها بعدما كانت تحت سيطرة الإمبراطورية البريطانية. ما يفضي بأنَّ مستقبل فلسطين مُؤمنٌ عليه من ناحيتين: الأولى للصهاينة والثانية لروتشيلد.
ونقرأ في كتاب فريدمان «بأن قبول بريطانيا بإعطاء فلسطين للصهاينة هو وعدٌ مقابل نجاحَ ضغطهم على الرئاسة الأميركية في دخولها الحرب ضدّ ألمانيا. لقد شنّت أميركا الحرب على ألمانيا في السادس من نيسان/ أبريل 1917. بعدما توجه الرئيس ويلسن Wilson إلى مجلسي الشيوخ والنواب طالباً منهما إعلان الحرب على ألمانيا، في الثاني من أبريل/ نيسان».
«وكان روتشيلد المموّل لنزوح 600,000 أشكنازي من أوروبا الشرقية إلى فلسطين والتزَم بإخراج مليوني عسكري من جيش الجنرال إدموند أينبِّي Général Edmund Allenby خارج فلسطين. وفي الثامن عشر من أيار/ مايو 1948 وبمساعدة الرئيس الأميركي ترومان Truman شرع 600,000 نازح يهودي خلسة، مدجّجين بالأسلحة، بطرد 1،350000 فلسطيني عُزَّل وغير مسلحين ودون أيّ حماية. ففي تلك الحظة أُعلنت دولة جديدة صهيونية «إسرائيلية». والحقبة الأخيرة المتبقية لروتشيلد كان في إرغام العرب على الاعتراف بالدولة الدُمية وهو ما حصل دون أي تردّد أو تأخر. إنَّ جهود روتشيلد لم تأتِ إلا لتمتين وتأكيد وحماية وحفظ موطئ قدمٍ ثابتٍ له في الشرق مبتدئاَ من قناة السويس إلى أعمق الشرق حيث الثروة الطبيعية الهائلة واللامحدودة في تلك البقعة من الأرض. أما في ما يتعلق بفكرة عودة شعب الله فهي هرطقة وأكبر كذبة شعواء عرفتها الإنسانية».
فمن أجل حماية ثروة روتشيلد ضُخت مليارات وشُنت حروب. فالصراعات تلوح دوماً وستبقى عالقة في الأفق طالما قضية فلسطين ومسألة الشعب الفلسطيني لم تُحلْ. كوميديا فلسطين يجب أن تتوقف. هذه القضية تحتاج إلى حلّ عادلٍ مستدام وأبدي. فما من سلام لا من بعيد ولا من قريب لا غرباً ولا شرقاً لطالما قضية فلسطين لا تزال منتقصة العدالة.